الطهاره المجلد 2

اشارة

سرشناسه : اراکی، محمدعلی، 1273 - 1373.

عنوان و نام پديدآور : ... الطهاره/ تالیف محمدعلی الاراکی.

مشخصات نشر : [قم]: موسسه فی طریق الحق، 1415ق. = - 1373.= 1373-

شابک : 7000ریال (ج.1)

يادداشت : عربی.

یادداشت : کتابنامه.

موضوع : فقه جعفری -- رساله عملیه

موضوع : طهارت

شناسه افزوده : موسسه در راه حق

رده بندی کنگره : BP185/2/الف4ک2 1373

رده بندی دیویی : 297/352

شماره کتابشناسی ملی : م 78-16099

[المقدمة]

الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على أشرف بريته و أكمل خليقته محمد و عترته المعصومين و اللعن على أعدائهم إلى يوم الدين

الكلام في الدماء الثلاثة

اشارة

أعني: الحيض، و الاستحاضة، و النفاس.

و يشبع الكلام فيها في فصول:

الفصل الأوّل في الحيض

اشارة

و هو دم خلقه اللّٰه تعالى في الرّحم لمصالح، و هو في الغالب أسود، أو أحمر، حار، غليظ، طريّ، يخرج بقوّة و حرقة. كما أنّ دم الاستحاضة بعكس ذلك.

و لا يخفى أنّ فائدة هذه العلائم و الصفات إنّما تظهر لمورد الاشتباه.

و حينئذ فيقال: كيف التوفيق بينها و بين الأصل المجمع عليه، الذي هو أنّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 6

الأصل في الدماء أن تكون حيضا إلى أن يعلم خلافه، و هو الذي يعبّر عنه بقاعدة الإمكان، أعني: كل دم أمكن أن يكون حيضا فهو حيض، فيقال عند الاشتباه:

يحكم بحيضية ما أمكن حيضيته، و إن لم يكن بهذه الصفات، بل و إن كان بصفات الاستحاضة، فمقتضى القاعدة هو أنّ الاعتبار في طريق التشخيص بالإمكان، و مقتضى أدلّة اعتبار الصفات كونها هي المرجع و الملاك عند الشك، و بينهما تعارض و تناف، و كذلك الحال في المرأة ذات العادة، فإنّ المرجع لها عند الشك و الاشتباه، هو عادتها، فيحكم بحيضيتها و إن لم تكن بهذه الصفات، و كانت بصفات الاستحاضة.

و بالجملة: فغير ذات العادة مرجعها قاعدة الإمكان و ذات العادة مرجعها عادتها. فلم يبق مورد للتميّز بالصفات.

و محصّل الدفع أن يقال: أمّا ذات العادة، فلا كلام في كون مرجعها عند الشك هو عادتها، بالتفصيل الذي في محله.

و أمّا غير ذات العادة، فليس مرجعها قاعدة الإمكان مطلقا، بل المتيقن من مورد القاعدة هو ما بعد الثلاثة أيام، و ذلك لأنّ لفظ الإمكان له إطلاقان: فتارة يطلق في مقابل اليقين، و أخرى في مقابل الامتناع، و حيث إنّ القاعدة لم يرد بها نص، فلا يمكن الرجوع في

تعيين مداليل ألفاظها إلى محاورات العرف، و أنّ المستفاد هو الإمكان الاحتمالي حتى تشمل ما قبل الثلاثة أيضا، أو أنّه الإمكان في مقابل الامتناع حتى تختص بما بعد الثلاثة، إذ لا يستقر الإمكان بهذا المعنى إلّا في ما بعدها، و أمّا في ما قبلها فيردّد الأمر بين الإمكان و الامتناع، لاحتمال انقطاع الدم فيما دون الثلاث، بل القاعدة معقد الإجماع فلا بدّ من الأخذ بالقدر المتيقن،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 7

و لا شكّ أنّه الإمكان في مقابل الامتناع، فتختص بما بعد الثلاثة.

و حينئذ فالمبتدئة في اليوم أو اليومين ليست موردا لهذه القاعدة، و المفروض عدم ثبوت العادة لها.

و كذلك الحال في الدامية، أعني: المرأة التي يستمرّ بها الدم، حتى يتجاوز العشرة، و امتد إلى شهر أو شهرين مثلا، و لم تكن ذات عادة وقتية، فإنّه لا يمكنها الرجوع إلى قاعدة الإمكان، لكونها معارضة في كل قطعة بنفسها في القطعة الأخرى، و المفروض عدم ثبوت العادة أيضا، فيمكن في حقّ هاتين الرجوع إلى التميّز.

أمّا الأخيرة أعني: المستمرّة الدم غير ذات العادة، فهي المتيقن من مورد قاعدة التميّز، فإنّها مورد أكثر أدلتها، و إنّما الكلام في الأولى و هي المبتدئة في ما قبل الثلاثة، و دخولها تحت هذه القاعدة يحتاج إلى النظر في أدلّتها، و أنّه يستفاد منها العموم أو الإطلاق الشامل لها أو لا؟

فنقول: منها: صحيحة معاوية بن عمّار قال: قال أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام-: «إنّ دم الاستحاضة و الحيض ليس يخرجان من مكان واحد، إنّ دم الاستحاضة بارد، و إنّ دم الحيض حارّ» «1» و هذا مطلق غير مقيّد بمورد خاص.

و منها: حسنة حفص بن البختري أو صحيحته قال: «دخلت على أبي عبد

اللّٰه- عليه السّلام- امرأة فسألته عن المرأة يستمرّ بها الدم فلا تدري أ حيض هو أو غيره؟ قال: فقال لها: إنّ دم الحيض حار عبيط، أسود له دفع و حرارة. و دم

______________________________

(1) الوسائل: ج 2، باب 3، من أبواب الحيض، ص 537، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 8

الاستحاضة أصفر، بارد، فإذا كان للدم حرارة، و دفع، و سواد، فلتدع الصلاة.

قال: فخرجت و هي تقول: و اللّٰه أن لو كان امرأة ما زاد على هذا». «1»

و لا يخفى أنّ ظاهر الرواية، أنّ جواب الإمام في هذه الرواية ليس بيانا للتكليف التعبّدي في خصوص مورد السؤال الذي هو المستمرّة الدم، بل إنّما هو بيان لما هو علامة دم الحيض بقول مطلق، المشهودة عند جميع النسوان، و يؤيده أيضا قول السائلة: «و اللّٰه لو كان امرأة ما زاد على هذا» فإنّه مناسب لأن يكون الإمام منبّها لها، لما هي كانت تغفل عنها من علائم مطلق دم الحيض مع كونها عالمة بها بالتجربة.

و منها: مرسلة إسحاق بن جرير، قال: سألتني امرأة منّا أن أدخلها على أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- فاستأذنت لها فأذن لها فدخلت- إلى أن قال:- فقالت له: ما تقول في المرأة تحيض فتجوز أيام حيضها؟ قال: «إن كان أيام حيضها دون عشرة أيام، استظهرت بيوم واحد. ثمّ هي مستحاضة» قالت: فإنّ الدم يستمرّ بها الشهر، و الشهرين، و الثلاثة، كيف تصنع بالصلاة؟ قال: «تجلس أيام حيضها ثمّ تغتسل لكل صلاتين» قالت له: إنّ أيّام حيضها تختلف عليها، و كان يتقدم الحيض اليوم و اليومين و الثلاثة، و يتأخر مثل ذلك فما علمها به؟ قال: «دم الحيض ليس به خفاء، هو دم حارّ تجد

له حرقة، و دم الاستحاضة دم فاسد بارد»، قال: فالتفتت إلى مولاتها فقالت: أ ترينه كان امرأة؟! «2» و دلالته على الإطلاق أيضا بمثل ما تقدّم، و إن كان مورده المستمرة الدم

______________________________

(1) الوسائل: ج 2، باب 3، من أبواب الحيض، ص 537، ح 2.

(2) المصدر نفسه: ص 537، ح 3.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 9

التي يختلف عليها الحيض، و ليس لها عادة مستقرّة.

و حينئذ فيمكن بمقتضى إطلاقات هذه الأخبار [القول] بجريان قاعدة الرجوع إلى الصفات، في حقّ المبتدئة قبل مضي الثلاثة أيام أيضا، فيحكم بالحيضيّة مع وجدانها، و بالاستحاضة مع فقدانها و من جملة الشواهد القويّة على إعطاء الأخبار قاعدة كلية ما تقدم في رواية ابن البختري المتقدمة من قوله- عليه السّلام-: «إنّ دم الحيض، حارّ، عبيط، أسود، له دفع و حرارة، و دم الاستحاضة أصفر، بارد. فإذا كان للدم، حرارة، و دفع و سواد، فلتدع الصلاة.».

وجه الشهادة: أنّ من المعلوم أن لون السواد، و صفة الحرارة، و الدفع، ليس لاستمرار الدم دخل في ثبوتها، و إنّما هي ثابت لذات دم الحيض في جميع أحوالها، و لا يعقل اختصاص دم الحيض بلون مخصوص، و حالة مخصوصة في حالة استمراره.

نعم يمكن اختصاص حكم هذه الصفات الغالبية بحالة الاستمرار بأن يكون اعتبار غلبتها و حجية هذه الغلبة مختصّا بصورة الاستمرار، و أمّا نفس تلك الصفات، فليست إلّا صفات غالبية موجودة في دم الحيض، و ليس قابلا للتعبد. و إذن فقوله: «دم الحيض حار عبيط إلخ» لا محيص عن حمله على مطلق دم الحيض، و لا شك أنّه مقدمة ممهّدة لتفريع قوله: «فإذا كان للدم حرارة إلخ» عليها، فلا محالة يكون هذا التفريع أيضا، مثل المتفرّع

عليه محمولا على مطلق دم الحيض.

فيكون الحاصل: أنّ هذه العلائم أمارات مجعولة لمعرفة دم الحيض في جميع الأحوال، من غير اختصاص لهذا الحكم بحالة دون حالة، و على هذا فيحكم في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 10

من شك في بلوغها، إذا كان الدم الخارج منها بصفات الحيض بالحيضيّة، فتكشف عن سبق البلوغ، كما لو علم بكون دمها حيضا، فإنّ الصفات أمارات تعبدية تقوم مقام العلم. هذا، و لكن لا يخفى أنّه لو كانت الأخبار بصدد إعطاء القاعدة، لزم تخصيص الأكثر فيها، فإنّ أكثر الموارد يكون هذه القاعدة غير معمولة، فانّ ذات العادة ترجع إلى عادتها و إن كانت بصفة الاستحاضة، فتكون العادة حاكمة على الصفات، و كذا الحال في المبتدئة بعد الثلاثة، لما تقدم من أنّ مرجعها قاعدة الإمكان، فهي تبني على الحيض و إن خلا الدم عن صفاته، بل و كذا الحال فيها بالنسبة إلى ما قبل الثلاثة، بناء على ما أيّده الأستاذ- دام ظله- و حكاه عن سيد مشايخه السيّد محمّد الأصفهاني- طاب مضجعه- من أنّ قاعدة الإمكان ليست بقاعدة تعبّدية كان مدركها الاخبار أو الإجماع، و إنّما مرجعها إلى أصل مسلّم مرتكز في الطبائع و النفوس، أعني: أصالة الصحّة. فإنّ دم الحيض دم صحيح يخرج من ذات المزاج الصحيح، و دم الاستحاضة دم فاسد يخرج من ذات مزاج فاسد، و مرتكز جميع النفوس في جميع الأعيان هو البناء على الصحّة، كما ترى في شراء البطيخ، و الرّقي، و الرمان، و أمثال ذلك مع عدم الاطّلاع على ما في جوفها، فإنّ ذلك ليس إلّا للبناء على الصحّة حتى يعلم الفساد و هذا وجه صحيح، و سائر الوجوه التي ذكروها في مدرك هذه

القاعدة، إمّا يرجع إلى هذا، و إمّا مخدوش.

و بالجملة: فعلى هذا فلا فرق في الحكم بالحيض في ما تراه المبتدئة، بين ما قبل الثلاثة، و ما بعدها لجريان البناء على الصحّة في كليهما، و إذن فلا يبقى لقاعدة التميز بالصفات مورد، سوى الامرأة الدامية غير ذات العادة، فلا محيص

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 11

عن حمل الكلام على كونه مسوقا لإعطاء الحكم، في خصوص موضوع الدامية غير ذات العادة، دون غيرها حتى لا يلزم التخصيص بالأكثر.

فتلخص عدم استفادة القاعدة الكلية منها، لا من جهة عدم الدلالة، و القصور في دلالتها، كما يظهر من شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- بل الحق كما عرفت قوّة دلالة الأدلة على ذلك، بل لأجل صون الكلام عن التخصيص الكثير المستبشع فتبصر.

مسألة: لا إشكال في أنّ شرط الحيض: أن يكون قبل اليأس و بعد البلوغ

، و حدّ البلوغ تسع سنين، و حدّ اليأس في غير القرشية خمسون سنة، و فيها ستون سنة.

و القرشية: من انتسب إلى نضر بن كنانة، مثل الفاطمية، و الأموية، و التيمية، و العدية. و ألحق بها في هذا الحكم النبطية، و في تعيين موضوعها تأمّل و إشكال، و إن فسّرت بسكّان البطائح، أو الأباطح، في ما بين الكوفة و البصرة.

و كيف كان، فإن كان انتساب المرأة إلى نضر بن كنانة، أو إلى غيره معلوما فلا كلام، و إلّا فالأصل يقتضي عدم كونها قرشية، فإذا ثبت بالأصل عدم القرشية، حكم بكون دمها بعد الخمسين استحاضة، و لا يعارض هذا الأصل بأصالة عدم كونها تميمية، و عدم كونها من بني مضر، و هكذا إلى آخر الطوائف غير قريش، فإنّ هذا الأصل غير جار لعدم ترتّب الأثر عليه، فإنّ الأثر أعني: عدم الحيض في ما بعد الخمسين إنّما هو لعدم القرشية، و

ليس لخصوصيات العناوين الخاصة الأخر دخل فيه أصلا، فلو فرض عدم تحقّق الانتساب إلى قريش، و لم يتحقق شي ء من النسب الآخر أيضا، كانت المرأة أيضا محكومة بكون حيضها إلى الخمسين و هذا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 12

واضح.

و إنّما الكلام في جريان الأصل الأوّل، أعني: أصالة عدم كون المرأة المشكوكة منسوبة إلى قريش، فإنّه يشكل ذلك بأنّ هذا الاستصحاب ليس له حالة سابقة، إذ لم يكن في شي ء من الأزمنة علم بحال المرأة، فإنّ الشك سار إلى أوّل أزمنة وجودها.

و أمّا عدم الانتساب الثابت قبل وجودها الذي هو السالبة بانتفاء الموضوع، فهو و إن كان معلوما قبل وجود المرأة، لكن استصحابه لا يثبت المدعى: من كون هذه المرأة الخاصة المشار إليها غير قرشية، إلّا على الأصل المثبت، فإنّ استصحاب عدم المحمول الثابت قبل وجود الموضوع إلى زمان وجوده، ثمّ حمل هذا السلب على الموضوع الموجود لا يكون إلّا مثبتا، مثل الماء الذي شكّ في كريته من أوّل زمان وجوده، فإنّ عدم الكرية المعلوم قبل زمان وجود الماء لو استصحب إلى زمان وجوده، فلا يثبت أنّ هذا الماء الموجود ليس بكر إلّا بالأصل المثبت.

و توضيح الجواب عن هذا الإشكال: أنّ السالبة يكون على نحوين مختلفين في العناية:

أحدهما: أن يرفع الحكم عن الموضوع المفروض الوجود، كما يقال: «زيد ليس بقائم» يعني أنّ زيدا الموجود ليس بقائم، و هذه حالها كالمثبتة، فكما أنّ المثبتة تحتاج إلى موضوع مفروض الوجود، حتى يوضع الحكم عليه، كذلك هذه تحتاج إلى موضوع كذلك حتى يرفع الحكم عنه.

و الثاني: أن يكون الموضوع هو الماهية المعراة عن الوجود و العدم، و ينفى ثبوت المحمول لهذا الموضوع، فلا محالة يكون أعم من وجود

الموضوع و من عدمه،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 13

و في الحقيقة يكون الموضوع هو النسبة بين المحمول و الماهية، فيقال: نسبة القيام إلى زيد، أعني: ماهية زيد الملاءمة مع وجوده و عدمه غير ثابتة، و هذا كما يصح مع وجود زيد يصح مع عدمه أيضا، و هذان على ما هو الحق يحتاجان إلى نوعين من العناية و ليس بينهما جامع. خلافا للأستاذ الخراساني، حيث ذهب إلى أنّهما مصداقان لمعنى واحد، و أنّ السالبة أبدا مستعملة في معنى واحد و كيف كان فعلى مختارة- طاب ثراه- يكون الاستصحاب في كل سالبة جاريا بلا لزوم إشكال، إذ لا يحتاج السالبة إلى موضوع موجود أصلا. و أمّا على مختارنا: فيختلف الحال في النوعين:

فإن كان موضوع الحكم من قبيل السالبة بالنحو الأوّل، فلا يجري الاستصحاب، لاحتياج هذا النوع إلى موضوع مفروض الوجود، و المفروض ثبوت الشك في جميع أزمنة وجوده، فلم يبق حالة سابقة معلومة، و ذلك كما في كرية الماء، فإنّ الكرية و عدمها اللّذين هما موضوعان للمطهرية و عدمها، إنّما اعتبرا في الأدلة محمولين على المياه الموجودة في الخارج، فكأنّه قيل: هذه المياه الموجودة في الدنيا أو المفروض وجودها فيها، إن كانت كرّا كانت مطهرة، و إن لم تكن كرا فليست بمطهرة. فلو شك في ماء أنّه هل كان في شي ء من أزمنة وجوده بقدر الكر، أو لا؟

لم يمكن إحراز عدم كريته بالاستصحاب لعدم الحالة السابقة.

و إن كان موضوع الحكم من قبيل السالبة بالنحو الثاني، كان الاستصحاب فيه بلا مانع لتحقق الحالة السابقة المعلومة فيه، لعدم حاجته إلى الموضوع المفروغ الوجود، و ذلك كما في هذا المقام، فإنّه لم يحمل حكم الحيضية إلى الستين و الخمسين

على النسوان الموجودات في الخارج، بل على الطبيعة المعرّاة عن الوجود و العدم،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 14

فكأنّه قيل: طبيعة المرأة إذا بلغت خمسين سنة لم تر حمرة، إلّا أن تكون منتسبة إلى قريش، فجعل انتساب ماهية المرأة إلى قريش موضوعا للحيضية إلى الستين، و عدم تحقق هذا الانتساب موضوعا للحيضية إلى الخمسين، فإذا استصحب في الامرأة المشكوكة عدم تحقق الانتساب إلى قريش، كان الموضوع محرزا بالاستصحاب، فيترتب عليه حكمه.

و توضيح كون المقام من القبيل الثاني: أنّه قد يكون الموضوع، هو الموضوع و المحمول على نحو تقيّد الأوّل بالثاني، لا فرض كل منهما منفردا عن الآخر، كما لو قيل: إذا تحققت قضية «زيد قائم» فصلّ ركعتين، فحينئذ لا يمكن عند الشك في قيام زيد، مع العلم به سابقا أن يستصحب.

و قد يكون الموضوع هما على وجه التأليف، مثل أن يكون زيد مع قيامه جميعا موضوعا لوجوب الركعتين، فحينئذ بعد إحراز جزء واحد من الموضوع: و هو زيد، إمّا بالوجدان، أو بالأصل، يمكن إحراز جزئه الآخر، و هو قيام زيد بالأصل.

و حينئذ نقول: الموضوع لحكم التحيض إلى خمسين: هو المرأة، و رؤية الدم، و عدم الانتساب إلى قريش. و الموضوع للتحيّض إلى الستين: هو المرأة الخارجية، و دمها، و الانتساب إلى قريش.

فالجزء أن الأوّلان، أعني: المرأة الموجودة و رؤية الدم، كلاهما محرزان بالحس.

و الجزء الآخر و هو عدم الانتساب قد أحرز بالاستصحاب.

فإن قلت: القضية الموجودة في المقام إنّما هي هكذا: المرأة إذا بلغت خمسين سنة لم تر حمرة إلّا أن تكون قرشية، فلا بدّ أوّلا من إحراز أنّ فقرة «إلّا أن تكون

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 15

قرشية» ليست من قبيل «زيد قائم» بأن

يكون الموضوع فيه و هو المرأة مأخوذة بلحاظ الوجود الخارجي، و فهم هذا منه ثمّ التمسّك بالاستصحاب، و إلّا فإن استفيد من هذه الفقرة، أنّ الموضوع كون المرأة الخارجية قرشية، كما في «زيد قائم» فلا مجرى لهذا الاستصحاب، و الظاهر هو الثاني. فإنّ المرأة في صدر القضية، لا شبهة في أنّ المراد بها المرأة الموجودة في الخارج، و الضمير في «تكون» أيضا راجع إلى المرأة المذكورة في صدر القضية، فيكون الكلام في قوّة أن يقال: المرأة إن كانت قرشية تتحيّض إلى الستين، و إن لم تكن قرشية تتحيّض إلى الخمسين، و يكون مثل قوله: الماء إذا بلغ قدر كر إلخ. و على هذا فلا مساغ للاستصحاب.

قلت: فرق بين القضية المبتدئة و بين الواقعة موقع الاستثناء، يظهر هذا الفرق بمراجعة العرف، فتراهم يفرّقون بين ما لو قيل: المرأة إن كانت قرشية فكذا، و بين ما لو قيل: لا تكرم امرأة إلّا أن تكون قرشية، ففي الثاني ليس النظر إلّا إلى نفس القرشية، فكأنّه قيل: المانع من الحكم المذكور في المستثنى منه ليس إلّا القرشية، فنفس القرشية محطّ النظر دون كونها منتسبة إلى المرأة الموجودة، كما في القضية المبتدئة، فراجع وجدانك في أمثال هذا نحو «لا تكرم زيدا إلّا أن يكون ضيفا» أو «إلّا أن يكون عالما» و غير ذلك، حيث إن المفاد أنّه إلّا مع الضيفية، و إلّا مع وجود العلم فيه، و الحاصل أنّ المستثنى و إن كان في الصورة من قبيل مفاد كان الناقصة، لكن في اللب راجع إلى كان مفاد كان التامة. تأمل تعرف.

و إذن فيكون الاستصحاب في المقام جاريا و ليس هنا مثل باب الكرية، و وجه الفرق هو ما ذكرنا من

أنّ القضية هناك مبتدئة فلهذا يظهر منه مفاد كان الناقصة، و هنا مصدرة بأداة الاستثناء فلهذا يكون ظاهرا في مفاد كان التامة، و لو

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 16

كان العكس: بأن كان القضية هناك هكذا: الماء ينفعل بالنجاسة إلّا أن يكون كرا. و هنا هكذا: المرأة إن كانت قرشية إلخ، كان الأمر بالعكس فتدبّر.

مسألة: لا إشكال في كون البلوغ شرطا في الحيض

فما تراه الصبية قبل بلوغها ليس بحيض، و هذا مدلول عليه بأخبار كثيرة، و لو خرج دم ممّن شك في بلوغها، فقيل: على فرض جمعه الصفات يحكم بالحيضيّة و يكشف عن سبق البلوغ، و لكنّه كما تقدّم، مبني على الفراغ عن أخذ القاعدة الكلية، من أخبار اعتبار الصفات و قد تقدّم الإشكال فيه. و إذن فيشكل الحال في هذه الصبية لأنّ الاستصحاب يقتضي عدم البلوغ، نعم لا إشكال في من شكّ في بلوغها حدّ اليأس، فإنّ الاستصحاب فيها موافق للحيضية.

مسألة: لا فرق في حكم القرشية و غيرها بين الحرّة و المملوكة

و حار المزاج و بارده، و أهل مكان و مكان. و هذا واضح.

مسألة: لا إشكال في اجتماع الحيض مع الإرضاع

اشارة

إنّما الإشكال في اجتماعه مع الحمل و عدمه، فإنّ فيه خلافا. و المشهور، و المحكي عن الصدوقين، و السيّد مدعيا عليه الإجماع في الناصريات، و العلامة في جملة من كتبه، و الشهيدين، و المحقّق الثاني، و جماعة من متأخري المتأخرين: هو الاجتماع، و هو الذي قوّاه شيخنا المرتضى- قدّس سرّه. و عدم الاجتماع محكي عن الإسكافي، و المفيد، و الحلّي، و المحقق في الشرائع، و نسبه في النافع إلى أشهر الروايات. و كيف كان فالمهم التعرض لمدرك القولين

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 17

أمّا ما تمسك به الأوّلون [: للاجتماع] فوجوه:
الأوّل: الاستصحاب

فإنّ المرأة قبل الحمل كانت بحيث تحيض في كل شهر، و الأصل بقاء هذه الحالة فيها بعد الحمل، و عدم ارتفاعها منها بسببه، فإنّ هذه الحالة أعني: التخلّق بالتحيض في كلّ شهر يعد حالة من حالات المرأة، و له حالة سابقة معلومة، و حالة لا حقة مشكوكة، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه، و هو استصحاب تعليقي موضوعه المرأة، و هو حاكم على الاستصحاب الفعلي، فإنّ الحامل التي ترى الدم، تشك في صيرورتها حائضا بذلك و عدمها، و لا شك أنّ الحالة السابقة فيها عدم التحيض.

و وجه الحكومة: أنّ الثاني مسبب عن الشك في الأوّل، فإنّ الشك في أنّ هذه صارت حائضا أو لا، مسبب عن الشك في أنّ الحمل أسقطها عن قابلية التحيض أو لا، فإذا أحرز بالأصل الأوّل، عدم حدوث حالة جديدة فيها بالحمل، و بقاؤها على ما كانت عليه قبله من التحيّض في كل شهر، كان الشك المسبّب عن هذا مرتفعا لا محالة، و لكن قد خدش في هذا الاستصحاب شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في طهارته: بأنّه و إن كان يجدي لترتيب أحكام الحائض على المرأة:

من حرمة

الصلاة، و الصوم، و نحوهما من الأحكام التي موضوعها الحائض، و لكن لا يثبت بسببه كون هذا الدم حيضا فلا يترتب عليه أحكام دم الحيض: من نزح البئر عقيب وقوعه بالمقدار المعلوم، و عدم العفو عن قليله في الصلاة، و نحو ذلك ممّا كان موضوعه نفس دم الحيض.

و الحاصل: يوجب هذا الاستصحاب الحكم بأنّ هذه المرأة حائض، و لكنّه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 18

لا يوجب الحكم بأنّ دمه حيض، لأنّه بالنسبة إليه مثبت، فإنّه بعد الحكم بكون المرأة حائضا، و عدم خروج دم منها سوى هذا الدم بالوجدان يعلم بأنّ هذا الدم حيض.

و لكن لا يخفى أنّ هذا الإشكال إنّما هو ناش من جعل الموضوع في الاستصحاب هي المرأة، و لو جعلناه الدم سلم منه، بأن يقال: هذه المرأة كانت في السابق بحيث متى يخرج منها لادم في رأس كل شهر مثلا فدمه كان دم حيض، و الأصل بقاء ذلك فيها، ينتج أنّ الدم الخارج منها بعد الحمل في رأس كل شهر دم حيض. و لا يشكل بأنّ الدم الخارج في السابق غير هذا الدم فالموضوع متعدد، فإنّه ليس المقصود شخص الدم و إنّما هو جنسه.

فحال الدم هنا حال الغليان في العصير العنبي عند استصحاب كونه منجسا حال الزبيبية، فنقول: هذا في حال العنبية كان بحيث متى غلى كان غليانه منجسا، ففي حال الزبيبية أيضا يكون غليانه منجسا بالأصل، مع أنّ الغليان في الزبيب غيره في العنب. و الذي يسهل الأمر هو ما ذكرنا من أنّ المراد هو الجنس.

و كيف كان فحينئذ يثبت الحائضية للمرأة، و الحيضية للدم، أمّا الثاني فواضح، و أمّا الأوّل فلأنّه بعد الحكم بأنّ هذا الدم دم حيض فخروجه

من المرأة محسوس، فتصير امرأة خرج منها دم الحيض. و لا نعني بالحائض إلّا هذا، فلا يحتاج الحكم بالحائضية بعد الحكم بالحيضية إلى واسطة، بخلاف العكس كما ذكرنا، و لعلّه- قدّس سرّه- أشار إلى هذا بقوله: فافهم.

الثاني: من الوجوه التي تمسّك بها للقول بالاجتماع، صدق الحيض لغة و عرفا

أمّا عرفا: فلأنّ العرف يحكم بأنّ الدم الخارج من الحامل بقانون العادة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 19

السابقة حيض، و ليس الحمل مانعا له عن هذا الحكم. و أمّا اللغة فلأنّ الحيض بحسبها إمّا سيلان الدم، أو الدم السائل، أو السيل المطلق، أو المقيد بكونه بقوة، على اختلاف التفاسير، و لا إشكال في أنّ الجميع صادق على ما تراه المرأة في حال الحمل بقوة.

و يحتمل قويا أن لا يكون الاستحاضة عند اللغة موضوعا على حدة غير الحيض، و إنّما أفردها عنه الشرع، و عليه فلا خفاء في صدق الحيض هنا لغة.

و الثالث: عمومات ترك الصلاة أيام أقرائها

و لكن هذه لا تفيد إلّا بعد إحراز كون ما بعد الحمل أيّام الأقراء، و هو أوّل الكلام، فالأولى جعل هذا من تتمة سابقه.

الرابع: الأخبار المستفيضة بل المتواترة

مثل صحيحة ابن سنان: أنّه سئل عن الحبلى ترى الدم أ تترك الصلاة؟ فقال: «نعم إنّ الحلبي ربّما قذفت بالدم». «1»

و نحوها موثقة أبي بصير، و صحيحة ابن الحجاج: عن الحبلى ترى الدم و هي حامل، كما كانت ترى قبل ذلك في كل شهر، هل تترك الصلاة؟ قال: «تترك الصلاة إذا دام» «2» و الظاهر أنّ المراد بدوامه عدم انقطاعه قبل ثلاثة أيّام.

و صحيحة ابن مسلم عن أحدهما- عليهما السلام-: عن الحبلى ترى الدم كما كانت ترى أيام حيضها مستقيما في كل شهر؟ قال: «تمسك عن الصلاة كما كانت تصنع

______________________________

(1) الوسائل: ج 2، باب 30، من أبواب الحيض، ص 576، ح 1.

(2) المصدر نفسه: ص 577، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 20

في حيضها، فإذا طهرت صلّت». «1»

و حسنة سليمان بن خالد قال: قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه السّلام-: جعلت فداك الحبلى ربّما طمثت؟ قال: «نعم، و ذلك أنّ الولد في بطن أمّة غذاؤه الدم، فربما كثر ففضل، فإذا فضل عنه دفقته، فإذا دفقته حرمت عليها الصلاة». «2»

قال الكليني: و في رواية أخرى: «فإذا كان كذلك تأخرت الولادة». «3»

و رواية رزيق: أنّ رجلا سأل أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن امرأة حامل رأت الدم؟ قال: «تدع الصلاة» قلت: فإنّها رأت الدم و قد أصابها الطلق فرأته و هي تمخض؟ قال: «تصلّي حتى يخرج رأس الصبيّ، فإذا خرج رأسه لم تجب عليها الصلاة، و كلّ ما تركته من الصلاة في تلك الحال لوجع، أو لما فيه من الشدة و الجهد

قضته إذا خرجت من نفاسها»، قال: قلت:- جعلت فداك- و ما الفرق بين دم الحامل و دم المخاض؟ قال: «إنّ الحامل قذفت بدم الحيض، و هذه قذفت بدم المخاض، إلى أن يخرج بعض الولد فعند ذلك يصير دم النفاس، فيجب أن تدع في النفاس و الحيض، فأمّا ما لم يكن حيضا أو نفاسا فإنّما ذلك من فتق في الرحم». «4»

و صحيحة صفوان، عن أبي الحسن الرضا- عليه السّلام- عن الحبلى ترى الدم ثلاثة أيام، أو أربعة أيّام تصلّي؟ قال: «تمسك عن الصلاة». «5»

و مرسلة حريز، عن أبي جعفر، و أبي عبد اللّٰه- عليهما السلام-: في الحبلى ترى الدم؟

قال: «تدع الصلاة فإنّه ربّما بقي في الرحم الدم و لم يخرج، و تلك الهراقة». «6»

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، باب 30، من أبواب الحيض، ص 578، ح 7.

(2)- المصدر نفسه: ص 579، ح 14.

(3)- المصدر نفسه: ص 579، ح 15.

(4)- المصدر نفسه: ص 580، ح 17.

(5)- المصدر نفسه: ص 577، ح 4.

(6)- المصدر نفسه: ص 578، ح 9.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 21

و مضمرة سماعة، قال: سألته عن امرأة ترى الدم في الحبل؟ قال: «تقعد أيامها التي كانت تحيض، فإذا زاد الدم على الأيام التي كانت تقعد، استظهرت بثلاثة أيام، ثمّ هي مستحاضة». «1» هذا ما ذكروه من الأخبار الدالة على الاجتماع، و هي كما ترى صريحة في ذلك.

و أمّا الوجوه التي تمسّك بها [: الآخرون] لعدم الاجتماع:
فمنها: أصالة عدم الحيض

و قد عرفت محكوميتها بأصالة بقاء التخلّق.

و منها: الإجماع

على صحّة طلاق الحامل، و عدم صحّة طلاق الحائض، ينتج أنّه ليس شي ء من الحامل بحائض، و فيه أنّه من الممكن أن يكون هذا تخصيصا في دليل عدم صحّة طلاق الحائض «2»، كما هو الحال في غير المدخولة، فإنّها أيضا كالحامل في كونها من اللواتي يصح طلاقهن في كل حال، مع أنّها تحيض بلا كلام، فكما يكون هذا الحكم فيه تخصيصا، فمن الممكن ذلك في المقام.

و منها: بعض الأخبار

مثل رواية السكوني، عن جعفر عن أبيه- صلوات اللّٰه عليهما- أنّه قال: «قال النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: ما كان اللّٰه ليجعل حيضا مع الحبل، يعني أنّها إذا رأت الدم و هي حامل لا تدع الصلاة، إلّا أن ترى على رأس الولد إذا ضربها الطلق و رأت الدم تركت الصلاة». «3»

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، باب 30، من أبواب الحيض، ص 578، ح 11.

(2)- المصدر نفسه: ج 15، ب 8، من أبواب مقدمات الطلاق، ص 276، ح 1.

(3)- المصدر نفسه: ج 2، ب 30، من أبواب الحيض، ص 579، ح 12.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 22

و دلالة هذه مبنية على كون التفسير المذكور، و هو قوله: «يعني أنّها إذا رأت إلخ» من الباقر- عليه السّلام-، و على فرضه فالجواب أنّ الرواية ضعيفة لا تكافئ الأدلة المتقدمة، مع إمكان الحمل على الغالب، فإنّ الحامل لا ترى الدم في الغالب، و في أوقات رؤيته أيضا ينقطع بعد قليل، فكون دمه متواليا إلى ثلاثة أيام في غاية الندرة.

و لو كان التفسير المذكور من السكوني فالأمر أسهل، فإنّا نقول: إنّ قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: «ما كان اللّٰه ليجعل حيضا مع الحبل»، قضية غالبيّة، و لا شك

في كون الغالب عدم اجتماع الحيض مع الحبل.

و منها: رواية مقرن المحكية عن علل الصدوق، عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام-:

أنّ سلمان- رضوان اللّٰه عليه- سألت عليا- عليه السّلام- عن رزق الولد في بطن أمّة؟ فقال: «إنّ اللّٰه تبارك و تعالى حبس عليه الحيضة، فجعلها رزقه في بطن أمّة». «1»

و الجواب [أوّلا]: أنّه ليس بصدد بيان الحكم الشرعي، و ثانيا: لا دلالة له على أزيد من احتباس غالب دم الحيض في غالب الأوقات، فلا تنافي أن يزيد الدم على مقدار كفاف الولد أحيانا، فيقذفه الرحم، كما تدل عليه رواية سليمان بن خالد المتقدمة.

و منها: رواية حميد بن المثنى، عن أبي الحسن- عليه السّلام- عن الحبلى ترى الدفقة و الدفقتين من الدّم في الأيّام و في الشهر و الشهرين؟ قال: «تلك الهراقة، ليس تمسك هذه عن الصلاة» «2» و عدم دلالته واضح، فإنّ الحكم بعدم الإمساك

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، باب 30، من أبواب الحيض، ص 579، ح 13.

(2)- المصدر نفسه: ص 578، ح 8.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 23

إنّما هو لأجل قلة الدم، و كونه في عرض الأيام، أو الشهر و الشهرين، دفقة واحدة أو دفقتين، كما يشعر بذلك أيضا قوله: «ليس تمسك هذه» فإنّه مشعر بالاختصاص و كون الحكم لأجل القلّة. و قد تقدم في موثقة أبي بصير و صحيحة ابن الحجاج تقييد الحكم بالحيضيّة بقوله: «إذا دام».

و منها: الأخبار المستفيضة بل المتواترة في استبراء السبايا بحيضة «1»

، و كذا الجواري المنتقلة ببيع أو غيره «2»، و الموطوءة بالزنا، و الأمة المحللة للغير، و في عدة المسترابة بالحمل.

و فيه أنّه يكفي في حكمة جعل هذا الحكم غلبة عدم اجتماع الحيض مع الحمل و هي مسلّمة، هذه أدلّة الطرفين، و قد عرفت أنّ

القوة و الترجيح، مع أدلة الاجتماع كما أنّه المشهور.

و هنا قولان آخران بالتفصيل جمعا بين أخبار الطرفين:
أحدهما: الفرق بين الحمل المستبين

فلا يجتمع مع الحيض، و بين غيره فيجتمع بل حصر هذا القائل الخلاف في هذا الأخير.

و التفصيل الآخر: الفرق بين ما تراه الحامل قبل العادة و في وقتها، و متأخرا عنها

بأقل من عشرين يوما، و بين ما تراه بعد العادة بعشرين يوما، ففي الأخير لا يكون حيضا، و في الباقي يكون حيضا.

و استشهد للقول الأوّل: بمصححة الصحاف قال: قلت لأبي عبد اللّٰه- عليه

______________________________

(1)- الوسائل: ج 14، ب 17، من أبواب نكاح العبيد و الإماء، ص 515، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ب 10، من أبواب نكاح العبيد و الإماء، ص 508، ح 1- 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 24

السّلام-: إنّ أمّ ولدي ترى الدم و هي حامل، كيف تصنع بالصلاة؟ قال: فقال لي:

إذا رأت الحامل الدم بعد ما يمضي عشرون يوما من الوقت الذي كانت ترى فيه الدم، من الشهر الذي كانت تقعد فيه، فإنّ ذلك ليس من الرّحم و لا من الطمث، فلتتوضأ و تحتشي بكرسف و تصلّي، و إذا رأت الحامل الدم قبل الوقت الذي كانت ترى فيه الدم بقليل أو في الوقت من ذلك الشهر، فإنّه من الحيضة، فلتمسك عن الصلاة عدد أيّامها التي كانت تقعد في حيضها، فإن انقطع عنها الدم قبل ذلك فلتغتسل و لتصلّ» الخبر. «1»

و دلالته على هذا التفصيل غير واضحة، فإنّه و إن حملنا الفقرة الأولى الدالة على عدم حيضية المتأخر بعشرين يوما، على الحمل المستبين، بناء على أنّ المناط في الاستبانة التأخر عن العادة بهذا المقدار، و لكن الفقرة الأخيرة الدالة على حيضية ما ترى قبل الوقت و فيه مطلقة شاملة لحال الاستبانة أيضا.

و أمّا التفصيل الآخر، بين غير ذات العادة فدمه في أيّ وقت تراه حيض، و كذا ذات العادة بالنسبة إلى ما تراه قبل العادة بقليل أو

في العادة، و بين ذات العادة في ما تراه بعد العادة بعشرين يوما فليس بحيض. فهذه الرواية صريحة فيه، و هي بملاحظة اشتمالها على الحكم بعدم حيضية المتأخر بعشرين يوما، تكون مقيدة للمطلقات الحاكمة بالحيضية، من غير فرق بين المتأخر و غيره، إذ يكون معها من قبيل المطلق و المقيد المتنافيين.

نعم بعض روايات الجواز المتقدمة مقيدة بالعادة، و هي روايتا أبي بصير، و ابن الحجاج، و صحيحة ابن مسلم، و مضمرة سماعة فلا حظ. و لكنّها مع غيرها

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 30، من أبواب الحيض، ص 577، ح 3.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 25

و هي ستّ روايات أخر ليست من قبيل المطلق و المقيد المتنافيين، بل من المتوافقين المثبتين و لا يوجب حمل المطلقات على أنفسها، فإن كان مراد صاحب الحدائق بقوله: «و أخبار المسألة ما بين مطلق و مقيد و الواجب بمقتضى العادة المقررة، حمل مطلقها على مقيدها. انتهى». هو اخبار الجواز المتقدمة، فإشكال شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- عليه بأنّه ليس المقام مقام الحمل لعدم التنافي متوجّه، و إن كان مراده بالمقيد هذه المصححة باعتبار اشتمالها على الحكم المذكور كان كلامه صحيحا، و إشكال الشيخ عليه غير وارد.

و كيف كان فلا يشكل ما ذكرنا من حمل المطلقات على هذه المصححة: بأن كثرة المطلقات بحدّ تأبى عن التقييد، فانّ حمل المطلق على المقيد إنّما هو تابع لمساعدة العرف، و هي منتفية في ما إذا كانت المطلقات كثيرة، إذ حينئذ يبعد غاية البعد أن لا يكون القيد مذكورا فيها بكثرتها، مع كون أكثرها بمقام البيان، فيصير ذلك بمنزلة أن يكون في البين لفظ صريح في الإطلاق، و حينئذ فلا بدّ من العمل بالمطلق

و طرح المقيد، كما هو الحال في منع إرث الزوجة من العقار، حيث وردت مطلقات كثيرة دالة على المنع، و خبر واحد على التفصيل بين ذات الولد و غيرها.

فالحق كما قرر في بابه طرح هذا الخبر و العمل بالمطلقات، للقطع بأنّه لو كان قيد لما خلا عنه تلك الأخبار الكثيرة.

و الجواب: أنّ مطلقات مسألتنا ليست في الإطلاق بحيث تقاوم هذه المصححة، بل هي إلى التقييد أقرب منها إلى الإطلاق، و يتضح ذلك بملاحظة حال النسوان في الخارج، فإنّ الغالب فيهنّ ذات العادة المستقرة، و ذوات العادة منهن أيضا في الغالب لا يتخلف حيضهن عن عادتهنّ، فغير ذات العادة و ذات

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 26

العادة التي تخلف حيضها عن عادتها كلاهما فرد نادر، فهذا سرّ أنّه يتبادر من المطلقات المقيد، و يشهد لفهم المقيد من هذه المطلقات: مضمرة سماعة، حيث ذكر السائل في كلامه المطلق، فإنّه سأل عن امرأة ترى الدم في الحبل، و هذا مطلق و الإمام- عليه السّلام- فهم منه ذات العادة التي ترى الدم في عادتها، و لهذا أجاب- عليه السّلام- بقوله: «تقعد أيامها التي كانت تحيض» و على هذا فليس تقييد في المطلقات، بل هي مقيدة بنفسها.

و حينئذ فأظنّ أنّ حمل الأخبار على هذه المصححة صاف عن شوب الإشكال، مضافا إلى كون نفس هذا التفصيل قريبا من الاعتبار أيضا، فإنّ العادة أمارة ضعيفة على عدم حيضية ما تأخر منها، و الحمل أيضا أمارة ضعيفة على عدم حيضية ما يجتمع معه، فالشارع قد ألغى هاتين في مورد انفرادهما، فلم يعتبر بالعادة في غير الحامل إذا رأت الدم بعد العادة مع شروط الحيض، و لا بالحمل إذا رأت الدم في العادة

أو قبلها أو بعدها بقليل، و لكن اعتبرهما معا في مورد الاجتماع، كما في الحامل عند تأخر الرؤية عن عادتها بعشرين، فجعل الأمارتين الضعيفتين في حال الانضمام أمارة معتبرة. هذا بحسب الدليل.

و أمّا بحسب القول فلم نعرف القول به من غير شيخ الطائفة- قدّس سرّه- في كتاب النهاية و كتابي الأخبار، مع أنّ النهاية مسوقة للجمع بين الأخبار دون ذكر الفتاوى، و حينئذ فلا يترك الاحتياط في المتأخر عن العادة بعشرين يوما، بالجمع بين تروك الحائض و أفعال المستحاضة، فإنّ عدم عمل الأصحاب بالرواية سبب للوهن السندي فيها، إمّا في أصل الصدور، و إمّا في جهة الصدور بأن يكون صادرة لتقية مثلا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 27

ثمّ إنّه ربما يحكى من بعض، بعد فهم المنافاة و المعارضة بين أخبار طرفي المسألة، أعني: ما دل على جواز اجتماع الحيض و الحمل، و ما دلّ على أنّ اللّٰه تعالى لا يجعل الحيض مع الحبل، الجمع بينهما بحمل الأولى على ما يجمع الصفات، و الثانية على غيره بشهادة بعض الروايات:

مثل قوله- عليه السّلام- في رواية إسحاق بن عمار، عن المرأة الحبلى ترى الدم اليوم و اليومين؟ قال: «إن كان دما عبيطا فلا تصلّي ذينك اليومين، و إن كان صفرة فلتغتسل عند كل صلاتين». «1»

و رواية ابن مسلم عن الحبلى قد استبان حملها ترى ما ترى الحائض من الدم؟ قال: «تلك الهراقة من الدم، إن كان دما أحمر كثيرا فلا تصلّي، و إن كان قليلا أصفر فليس عليها إلّا الوضوء» «2».

و الرضوي: «الحامل إذا رأت الدم في الحمل، كما كانت تراه تركت الصلاة، فإذا رأت أصفر لم تدع الصلاة».

و يمكن الجواب، أمّا عن الرواية الأولى: بأنّها ليست في

مقام التفصيل بين الجامع للصفات و غيره، بكون الأوّل حيضا واقعيا، و الثاني استحاضة واقعيا، بل لما كان رؤية الدم في الثالث غير معلوم، جعل المعيار قبل العلم بذلك هو الرجوع إلى الصفات، فإن انقطع الدم قبل الثلاثة، و قد تركت الصلاة لأجل وجود الصفات لزم عليها قضاؤها.

و يمكن حمل الروايتين الأخيرتين على ذلك، و لا أقل من إجمالهما بحيث

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 30، من أبواب الحيض، ص 578، ح 6.

(2)- المصدر نفسه: ص 579، ح 16.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 28

تسقطان عن قابلية تقييد مطلقات الطرفين، هذا مضافا إلى أنّك عرفت عدم المنافاة بين الأخبار حتى تحتاج إلى الجمع.

مسألة: لو انصبّ الدم إلى فضاء الفرج فهل تصير المرأة بذلك حائضا أو لا؟

أعني: مطبق شفتيه بحيث كان ظهوره محتاجا إلى انفراج يسير في الرجلين، فهل تصير المرأة بذلك حائضا أو لا؟

مجمل الكلام: أنّه ليس للظاهر و الباطن في هذا الباب عنوان: بأن كان الحائض من خرج الدم من باطنه إلى ظاهره، حتى يحتاج إلى تعيين الحال في بعض المواضع، أنّه من الظاهر أو الباطن كما في باب التنجيس و التنجّس، حيث إنّه فرق بين ظاهر البدن و باطنه في التنجّس، فيقع الكلام في مثل مطبق الشفتين أنّه من الظاهر أو الباطن. و أمّا هنا فالموضوع هو المرأة التي خرج منها الدم أو ذات الدم، فالأولى الرجوع إلى العرف في صدق هذين العنوانين و عدمه، و لا يبعد أن يقال: إنّه إن انصبّ الدم في جوف الرحم، بحيث احتاج خروجه إلى إدخال قطنة أو إصبع فلا يصدق العنوانان، و أمّا إن وصل إلى ما بين شفتي الفرج و لم يتعدّ من ثقبته، بحيث كان إحساسه بالبصر محتاجا إلى انفراج ما بين الرجلين في الجملة، فهذه

يصدق عليها أنّها رأت الدم أو خرج منها الدم.

مسألة: اعلم أنّ لاشتباه الدم صورا

اشارة

الأولى: أن يشتبه دم الحيض بالاستحاضة:

بأن يعلم أنّه إمّا حيض أو استحاضة، إمّا بالعلم الوجداني، أو بالعلم الشرعي ..

ثمّ إنّ هنا سؤالا لم أجد في كلماتهم التعرض له، و هو أنّ القضية المشهورة في الأخبار أقل الحيض ثلاثة، و كذا قولهم: أكثره عشرة، هل هو حكم تعبّدي من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 29

الشارع في مورد الشك، بمعنى جعله هذين الحدين من علائم الحيض، و أماراته التي يستدل بها عليه شرعا عند الشك، فيكون ملغى مع العلم بالخلاف كما هو الحال في كل أمارة، يعني لو رأت دما أقل من الثلاثة أو أكثر من العشرة، و علمت من العلائم الخارجية بكونها دم حيض، يحكم عليها بأحكام الحائض، فالحكم المزبور نظير حكم الاستبراء للبول و المني، للحكم على الرطوبة المشتبهة بكونها بولا أو منيا معه و غيرهما لا معه، فلو علم اتّفاقا بعكس ذلك فلا إشكال في عدم الاعتبار بالاستبراء.

و بعبارة أخرى: هل يكون الحكم بعدم الأقلية من الثلاثة، و عدم الأكثرية من العشرة، نظير الحكم في الأخبار بكون الحيض أحمر حارا عبيطا، و نظير القاعدة المقررة: كلّ ما أمكن أن يكون حيضا فهو حيض، حيث يعلم من مساقهما كونهما واردين لبيان الحال عند الاشتباه و التحيّر؟ أو أنّ الحكم المزبور ليس فيه تعبّد و تصرّف من الشرع، بل هو كشف و بيان لما هو الموضوع النفس الأمري لدم الحيض، فيكون مفاده أنّ دم الحيض لا يتخلّف عن الحدين أبدا، و ما كان متخلفا عنهما فهو واقعا غير دم الحيض؟ فلو كان أهل العرف يرونه حيضا مع التخلف، فهذا تخطئة من الشرع لهم، و بيان لفساد

نظرهم، و على هذا فيكون المتبع هاتين القاعدتين سواء صادفهما العلم بالحيضية، أو الشك، أو العلم بالخلاف؟

و الإنصاف: عدم دليل يعيّن أحد هذين الاحتمالين، و يوجب ظهور القضية فيه، إذ لا إشكال في أنّ الحيض أيضا موضوع من الموضوعات الخارجية، مثل البول، و المني، تعرفه النّساء كما تعرف البول و المني، و ليس موضوعا مستحدثا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 30

شرعيا مثل سائر الموضوعات الشرعية، حتى يقال: إنّ ظاهر الكلامين كونهما في مقام الجعل، بمعنى أنّ المقصود بهما أنّ الحيض الذي هو مجعول للشرع، يكون من مقوماته بحسب جعله هذان الحدّان، فإذا بطل هذا الاحتمال و قطع بخلافه، ينحصر الأمر في ما ذكرنا من الاحتمالين الأوّلين:

أحدهما: أن يكون كشفا للموضوع الواقعي، فيكون الحدّان من مقوّمات الحيضية بحسب نفس الأمر، و هذا الكلام تخطئة لنظر العرف حيث لا يراه محدودا بهما.

و الثاني: أن لا يكون الحدّان من مقوماته بل أمكن تخلّفه عنهما أيضا، و لكن المحدودية بهما كان هو الغالب، فاعتبر الشارع بهذه الغلبة و جعلها كاشفة تعبدية لمقام الشك، كما جعل سائر الصفات الغالبية لدم الحيض كواشف عنه لدى الشك، و لا يخفى عدم إمكان ترجيح أحد هذين المعنيين على الآخر، إذ لا مرجح لأحدهما.

[مطالب مرتبطة بمرسلة يونس]
اشارة

و هنا مطالب مرتبطة بالرواية، أعني: مرسلة يونس

أحدها: إنّ التعليل المذكور في صدرها للحكم بكون أدنى الطهر عشرة أيام، بقوله: و ذلك أنّ المرأة أوّل ما تحيض إلخ، كيف يرتبط بالمعلل

مع أنّ المذكور فيه ليس سوى الحكم بعدم زيادة الحيض على العشرة، و عدم نقصانه من الثلاثة على حسب اختلاف سنّ المرأة صغرا و كبرا، و من المعلوم أنّ الحكمين المذكورين، أعني: كون الحيض لا يزيد على العشرة و لا ينقص عن الثلاثة، لا يصلحان علّة لكون أدنى الطهر عشرة، إذ لا ملازمة بين الطرفين أصلا، لإمكان فرض قلّة الطهر من العشرة مع عدم زيادة الحيض على العشرة، و لو ضمّ إلى التعليل الحكم بأنّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 31

الحيض في الشهر ليس إلّا مرة واحدة، فهو مع فساده لا يصحح العلّية، إذ هذا يناسب مع كون العشرين أدنى الطهر، و لو ضمّ إليه عدم زيادة الحيض في الشهر على المرتين، فهو مع فساده أيضا غير مصحح لإمكان أن تتحيّض في الشهر بأكثر الحيض مرتين، مع كون الطهر أقل من عشرة، كما لو رأت عشرة دما و خمسة بياضا و عشرة دما.

و بالجملة فالإنصاف: أنّ هذه الفقرة من الرواية مضطربة المتن، و لعلّه نشأ من نقل الراوي الرواية بالمعنى، أو كان بعد قوله: «أدنى الطهر عشرة» شي ء فسقط عن قلم الراوي، مثل: أنّ أدنى الحيض ثلاثة و أكثر عشرة، إذ حينئذ يلائم التعليل مع المعلل كما لا يخفى.

ثانيها: ذكر شيخنا المرتضى للفقرة الأخير من الرواية

و هي قوله- عليه السّلام-:

«و إذا حاضت المرأة و كان حيضها خمسة أيّام، ثم انقطع الدم اغتسلت و صلّت، فإن رأت بعد ذلك الدم و لم يتم لها من يوم طهرت عشرة أيام، فذلك من الحيض» معنى آخر غير ما ذكرنا، يصير على هذا المعنى موافقا للمشهور القائلين بأنّ النقاء المتخلل بين عشرة الدم محكوم بالحيضية، و كون الطهر مطلقا ليس أقل من العشرة، و

هو أن يقال: إنّ قوله: «من يوم طهرت» قيد لقوله: «و لم يتم لها»، لا أنّه قيد للعشرة و بيان لمبدئها.

و محصل المعنى: أنّه إن كان رؤية الدم الثاني حين لم يتم عشرة أيّام بعد، يعني أنّ العشرة أيام من حين رؤية الدم الأوّل، لم يتحقق متمّمها من حين انقطاع الدم الأوّل إلى حين رؤية الدم الثاني.

و على هذا فيكون المقصود، الحكم بحيضية الدم الثاني إذا كان في عشرة الدم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 32

الأوّل، و نعلم ضمنا محكومية النقاء المتخلل بالحيضيّة من هذا التعبير أيضا، بخلاف ما حملنا عليه العبارة من كون المراد عدم مضي عشرة الطهر، بجعل مبدأ العشرة من حين انقطاع الدم الأوّل لا من حين رؤيته، إذ حينئذ لا يدل على حيضية النقاء، بل له ظهور أو صراحة في الحكم بعدم حيضية، فيكون دليلا على ما ذهب إليه صاحب الحدائق و بعض آخر: من كون النقاء المتخلل في عشرة الدم طهرا، مع كونه أقل من عشرة.

و لا يخفى أنّ المعنى الذي ذكره شيخنا و إن كان ليس بعيدا، إلّا أنّ العبارة المذكورة أظهر في ما ذكرنا: من كون المراد بالعشرة عشرة الطهر الملحوظ ابتداؤها من يوم الانقطاع.

ثالثها: قد استشكل في الجواهر على مضمون الرواية:

بأنّ ما اشتمله الفقرة الأخيرة منها من الحكم على المستمرة الدم، التي عادتها خمسة أيّام بجعل حيضها عشرة أيام، مخالف للقاعدة المسلّمة من كون المرجع لذات العادة إذا تجاوز بها الدم هو عادتها، فاللازم جعل الحيض في المثال: «خمسة» لا «عشرة» و هو كما ترى مبني على استظهار العادة من قوله- عليه السّلام-: «إذا حاضت المرأة و كان حيضها خمسة أيام» و هو في محل المنع، إذ لا يستفاد من هذه العبارة

أزيد من كون الحيض في هذه المرتبة خمسة، فكأنّه قيل: إذا حاضت المرأة خمسة أيام، كما يقال: مرض زيد و كان مرضه خمسة أيام، فإنّه مساوق مع قولك مرض زيد خمسة أيّام.

ثمّ لو قلنا بالتوالي في أقلّ الحيض، فلا إشكال أنّه من باب استظهاره من وقوع الثلاثة أيام ظرفا لما من شأنه الاستمرار، فإذا نسب الفعل الذي من شأنه ذلك إلى زمان، فالظاهر استيعابه تمام أجزاء هذا الزمان وجوده في كل جزء على

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 33

الاتصال، فلو قيل: قعدت يوما، معناه القعود في تمام اليوم، و لا يكفي في صدقه القعود في ساعة منه، فكذا قولنا: حاضت المرأة ثلاثة أيّام ظاهر في استمرار حيضها في هذا الزمان، و لهذا يفهم أنّ الأيّام أيضا متوالية لا متفرقة حفظا للاستمرار، و إلّا فلا شبهة في أنّ نفس لفظة ثلاثة أيام، مطلقة قابلة للتوالي و التفرقة على حدّ سواء، و لا ظهور لها في خصوص شي ء منهما.

[في أنّ الحيض هل مثل الطهارة و الحدث، اسم للأمر الباطني أو أنّه اسم لنفس الدم أو سيلانه؟]

إذا عرفت ذلك، فحينئذ لا بدّ من التكلّم في أنّ الحيض هل مثل الطهارة و الحدث، اسم للأمر الباطني و المعنى القائم بنفس الزوجة، و خروج الدم كاشف عن ثبوت هذا المعنى في المرأة، كما أنّ الحدث أمر معنوي قائم بنفس الإنسان، و الأشياء المعهودة موجبات له و كواشف عن حدوثه؟ أو أنّه اسم لنفس الدم أو سيلانه؟

و تظهر الثمرة بين هذين في العشرة المتخلل فيها النقاء.

فعلى الأوّل يكون من المصاديق الواقعية للحيض، و يكون إطلاق الحيض في جميع العشرة على وجه الحقيقة.

و على الثاني يكون بحكم الحيض و من مصاديقه تعبدا لا واقعا: يعني أعطاه الشارع حكم الحيض مع عدم كونه منه واقعا، و يكون الإطلاق

على سبيل التجوّز.

و تظهر أيضا فيما إذا انقطع الدم عند تمام العادة، ثمّ عاد بعد ذلك قبل تمام العشرة، كما لو كان العادة خمسة أيام و انقطع الدم في آخر اليوم الخامس، و كان السادس و السابع بياضا، ثمّ رأت في الثامن الدم، فإنّ الاستصحاب على الوجهين يختلف حينئذ، فإنّ موضوعه على الثاني هو الدم أو سيلانه، و هو مفقود بالفرض في السادس و السابع، فلا يمكن استصحاب وجوده في الثامن، و على الأوّل هو

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 34

الحالة النفسانية القائمة بنفس المرأة، المحتمل بقاؤها و زوالها في السادس و السابع و الثامن، فيحكم ببقائها في الثلاثة بحكم الاستصحاب.

و تظهر الثمرة بين الوجهين أيضا في مسألة أخرى، و هي: أنّه على القول باعتبار التوالي في الثلاثة التي هي أقل الحيض، هل يعتبر استمرار الدم في جميع آنات الثلاثة كما عن المشهور؟ أو يكفي وجود الدم في كل يوم في الجملة كما عن بعض؟

و الحق: ابتناء المسألة على ما ذكرنا من الوجهين: و ذلك لأنّه لو كان الحيض عبارة عن الحالة النفسانية القائمة بنفس المرأة، الكاشف عنها رؤية الدم بالشروط المقررة، فالحقّ مع الثاني إذ الاستمرار المستفاد من وقوع الثلاثة ظرفا لأقل الحيض، لا ينتقض على هذا بواسطة عدم ظهور الدم في أكثر أجزاء الثلاثة، إذ المناط ليس هو استمرار خروج الدم، بل المعيار استمرار وجود هذه الحالة في المرأة، فيكفي في ذلك رؤية الدم في كل من الثلاثة دفعة واحدة، إذ يكون هذا أمارة على بقاء الحالة في نفس المرأة، فيكون الحيض نظير مرض كان من لوازمه الإغماء في كل يوم دفعة واحدة، إذ حينئذ و لو لم يكن نفس الإغماء دائميا،

لكن يحكم بدوام هذا المرض و استمراره، و يجعل عروض الإغماء، كاشفا عن وجوده، فكذلك هنا أيضا و إن لم يكن نفس الدّم دائميا، و لكنّه يستكشف بوجوده في كل يوم دفعة، بقاء حالة الحيض للمرأة في جميع أجزاء الثلاثة.

و أمّا إن قلنا: بأنّ الحيض عبارة عن نفس الدم السائل أو سيلانه، فلا محالة يعتبر الاستمرار حينئذ بالنسبة إلى نفس الدم، و حينئذ فليس معنى استمراره كون الدم سائلا من الفرج، بحيث لا ينقطع سيلانه في آن من آنات الثلاثة، فإنّ هذا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 35

أمر غير واقع في حقّ أحد من النسوان، بل المراد عدم تعطيل الرحم عن تقاطر ما قذفه من دم الحيض، و لا يضرّ في استمرار هذا المعنى تخلل الفترة اليسيرة، بمقدار خمس دقائق مثلا بين كل دفعتين، إذ لا بدّ أن يمضي هذا المقدار من الزمان، حتى يجتمع الدم بعد سقوط القطرة الأولى على منفذ الرحم يسيرا يسيرا، حتى يصير قطرة و يسقط، كما هو المشاهد في الثوب الذي يسيل منه الماء، بعد انقطاع سيلانه و حصول التقاطر منه، حيث يحصل هذا المقدار من الفصل بين قطرتيه، و لا يضر باستمرار تقاطره، و هذا ينطبق أيضا مع ما ذكره المشهور في تفسير الاستمرار، من كونها بحيث متى وضعت الكرسف، و صبرت هنيئة خرجت متلطخة، و لو بجزء يسير من الدم.

و الظاهر من الوجهين هو الثاني، بمعنى أنّ الحيض الظاهر كونه اسم عين، على خلاف الاستحاضة و العذرة و النفاس و القرحة، فإنّها أسماء معان و الدم يضاف إليها، و أمّا الحيض فهو نفس الدم. و لعلّه يمكن استفادة هذا من ملاحظة التعبيرات الواقعة في الأسئلة و الأجوبة

من الروايات، كما لو كان فيها التعبير بأنّ المرأة ترى الحيض، فإنّه ظاهر في كونه اسم نفس الدّم كما هو واضح.

[الكلام في كبريي المسألة و هما اعتبار التوالي في العشرة، و كذا المراد بالطهر هل هو جنس الطهر أو خصوص الطهر الفاصل بين الحيضتين؟]

هذا كلّه في الكبرى الأولى، أعني: أقل الحيض ثلاثة.

و أمّا الكبريان الأخريان، أعني: كون أكثر الحيض عشرة أيام، و كون أقل الطهر عشرة، فهما أيضا بإجمالهما موضع وفاق.

و إنّما الإشكال في الأولى منهما من حيث اعتبار التوالي في العشرة، أو كفاية العشرة الملتقطة من العشرتين أو العشرات، نظير ما مرّ من الكلام في أقل الحيض.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 36

و في الثانية من حيث إنّ المراد بالطهر هل هو جنس الطهر أو خصوص الطهر الفاصل بين الحيضتين؟ و الكلام الأوّل مبني على الثاني، إذ لو قلنا: بأنّ مطلق الطهر لا يمكن أن يكون أقل من العشرة، فلا محالة يكون العشرة التي هي أكثر الحيض مستمرة متوالية، و يكون أيام النقاء المتخللة بينها أقلّ من عشرة بحكم الحيض، و لا يكفي الالتقاط من جميع الشهر، لأنّ النقاء المتخلل إن كان بقدر أقل الطهر فطرفاه حيضتان بلا إشكال، و إن كان أقل منه لزم خلاف المفروض، إذ يلزم كون الطهر أقل من عشرة.

و إن قلنا: بأنّ المراد خصوص الطهر بين الحيضتين، و لا يضر أقلية الطهر المتخلل بين الحيضة الواحدة من العشرة، كان الالتقاط في عشرة الحيض جائزا بشرط أن لا يصل الطهر المتخلل إلى عشرة، و حينئذ فالمهم التعرّض لحال القاعدة الثانية.

فنقول: ليس على القول الأوّل فيها و هو كون المراد جنس الطهر دليل سوى ظهور هذه القضية، أعني: أقل الطهر عشرة أيام في كون المراد جنس الطهر. و على القول الآخر يلزم التقييد بما بين الحيضتين، و هو تقييد للإطلاق مع عدم قرينة

عليه في الكلام، و ظهور قولنا أكثر الحيض عشرة أيام في التوالي على نحو ما مرّ في أقلّ الحيض، مع اعتضاد هذين الظهورين بالشهرة العظيمة.

و أمّا القول الآخر و هو كون المراد خصوص الفاصل بين الحيضتين، فيدل عليه: ما تقدم في أقل الحيض من مرسلة يونس، بناء على ما اخترنا له من المعنى، و صحيحة ابن مسلم، و حسنته.

و هذه الثلاثة كافية لإفادة هذه المدعى، لقوة سند الجميع، و ظهور أو

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 37

صراحة دلالتها، بناء على أنّ المراد بالعشرة في الأخيرتين، التي حكم بكون الدم قبل تمامها من الحيضة الأولى، و بعده من حيضة أخرى مستقلة، هو عشرة الطهر لا عشرة الحيض، إذ على الثاني و إن كان الحكم بكون ما قبل تمامها من الدم من الحيضة الأولى صحيحا غير مناف لما ذكره المشهور، إلّا أنّه لا بدّ من تقييد الفقرة الثانية منه بما إذا تحقق الفصل بأقل الطهر بين الدمين و هو خلاف ظاهر الإطلاق، فيتعين الحمل على عشرة الطهر فيكون دالا على خلاف المشهور.

و الإنصاف: انعقاد الظهور لهما في هذا، بحيث يكون حملهما على الأوّل طرحا لهما لا عملا بهما.

ثمّ بعد وجود هذه الروايات الثلاث، لا يحتاج إلى التمسك لهذا القول بما لا دلالة له عليه، و هو أمران:

الأوّل: كون التقييد بما بين الحيضتين في جملة من معاقد الإجماع، فإنّه لا يدل على أنّ الطهر قسمان: ما يكون بين الحيضتين، و ما يكون بين الحيضة الواحدة، و أنّ الحكم بعدم الأقليّة من العشرة مختص بالأوّل، بل وجه التقييد أنّه لما لم يكن لجنس الطهر فرد عندهم غير هذا، نبّهوا على ذلك في ضمن الحكم المذكور، فكأنّه قيل:

الطهر عبارة

عمّا بين الحيضتين.

و الآخر: روايتا داود مولى أبي المغراء العجلي، و يونس بن يعقوب.

حيث حكم في الأولى: بأنّ المرأة تترك الصلاة متى رأت الدم، و تصلّي متى طهرت ما دام لم تنقض عادتها، و بعد انقضائها يكون الدم استحاضة.

و في الثانية: حكم بذلك إلى شهر، و بعد انقضائه تكون المرأة بمنزلة المستحاضة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 38

و لكن لا دلالة في الأولى، لاحتمال كون الحكم بإتيان العبادة في أيام النقاء من باب الاحتياط، و احتمال لحوقها ببقية الطهر، لا لأجل كونها طهرا حقيقيا. و لا في الثانية، و ذلك لأنّ الظاهر من مساق الرواية كونها حكما في موضوع المرأة المتحيرة التي لم تستقر لها عادة، و استمر بها الدم إلى شهر لكن في خصوص الشهر الأوّل، يعني أنّها في الشهر الأوّل الذي يستمر بها الدم لا بدّ أن تفعل هكذا، ثمّ إن حصلت لها هذه الحالة في الشهر الثاني أيضا، لحقها حينئذ ما تقرّر في حقّ المستمرة الدم، فالحكم بالصلاة في أيّام النقاء أيضا يكون من باب الاحتياط، بل يجب حمل الثانية على ذلك، و إلّا لزم كون الحيضة الواحدة أكثر من عشرة، أو كون الطهر بين الحيضتين أقل منها، كما لا يخفى على من لا حظ الرواية.

و بالجملة: لا دلالة للروايتين على هذا المدعى، لو لم يكن لهما الدلالة على الخلاف، و كذا لا حاجة بعد الروايات الثلاث المتقدمة، إلى الاحتجاج على الدعوى المذكورة، برواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه الواردة في عدّة الطلاق المفصّلة في ما إذا عجل بها الدم قبل الحيضة الثالثة، بين ما إذا كان قبل العشرة من الحيضة الثانية، و بين ما إذا كان بعدها بالحكم بكونه من

الحيضة الثانية في الأوّل، و من الحيضة الثالثة في الثاني، و دلالة هذه أيضا كما ترى تكون على حذو دلالة روايتي ابن مسلم المتقدمتين.

و لكن قد خدش شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في سندها، و ليس في سندها من يوجب الضعف سوى معلّى بن محمد، فإنّه قد اختلف أقوال أصحاب الرجال في حقّه.

فقال بعض: إنّه مضطرب الحديث و المذهب.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 39

و قال بعض: لم أطّلع على خبر يدل على اضطراب حديثه و مذهبه.

و عدّه بعض من مشايخ الإجازة.

و كيف كان: ففي الروايات الثلاث المتقدمة كفاية، و هي متقدمة على ظهور قولنا: أقل الطهر في إرادة الجنس. و قولنا: أكثر الحيض عشرة أيام في الاستمرار.

و على هذا فيشكل الحال في المسألة غاية الإشكال، إذ الموجود في أحد طرفيها عمل الأصحاب الخالي عن الرواية. و في الطرف الآخر الرواية الخالية عن العمل. فلا جرأة للفقيه في مخالفة الأوّل من جهة استبعاد أن لم تصل إليهم هذه الروايات، مع وضوح دلالتها، و قوّة سندها، فرفع يدهم عنها يوجب شيئا فيها، و لا في طرح الثاني بمجرّد هذا الاستبعاد، فلا محيص لغير القاطع بأحدهما من الاحتياط.

مسألة: العادة في الحيض: إمّا مفردة و إمّا مركّبة

اشارة

و المفردة أمّا وقتية، و إمّا عددية، و إمّا وقتية و عددية.

و المركّبة: مثل أن ترى في الشهر الأوّل ثلاثة من أوّله، و في الثاني أربعة من وسطه، و في الثالث خمسة من آخره. ثمّ رأت بهذا الترتيب في الدورة الثانية و الثالثة.

و فائدة تحقق العادة إنّما هي لمستمرة الدم، فلو كانت مسبوقة برؤية الدم في شهرين متماثلين في العدد، تجعل الحيض هذا العدد مخيرة بين جعله في الأوّل، أو الوسط، أو الآخر، أو في الوقت فترجع في العدد إلى

ما ترجع إليه المستمرة غير ذات العادة، فتجعله في هذا الوقت و لا تخيير لها، أو في الوقت و العدد فتكون ملزمة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 40

بأحدهما، و ليس لها أخذ الغير.

ثمّ العادة الوقتية قد تتحقق في أوّل الحيض، كما لو رأت مكررا و كان أوّل دمها في جميع المرات أوّل الشهر، و قد تتحقق في الوسط، كما لو كان وسط حيضها الحقيقي في جميع المرّات هو العاشر من الشهر، و قد تتحقق في الآخر، كما لو كان اختتام حيضها في الجميع في السادس، فيلزمها مراعاة الأوّلية، أو الوسطية، أو الآخرية عند الاستمرار.

ثمّ المهم في المقام، إنّما ملاحظة أنّه يمكن استفادة تمام هذه الأقسام من أدلّة العادة بمدلولها اللفظي، ثمّ بعد عدم إمكان الاستفادة من المدلول اللفظي إلّا في البعض، فهل يمكن استفادة البعض الآخر من جهة تنقيح المناط؟ فإن أمكن فهو، و إلّا فلا بدّ في تحقّق العادة من الرجوع إلى العادة العرفية المتوقفة على الرؤية، في قريب من عشرين مرّة متماثلة، إذ التخلّق و الاعتياد عند العرف لا يحصل بمجرد تماثل دفعتين، أو ثلاثة، أو أربعة بلا شبهة.

و الحاصل: أنّ المرجع، لا إشكال أنّه في حقّ المستمرة هو أيّام الحيض و القرء، بمقتضى القول النبوي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم للتي تحقّق لها عادة: «دعي الصلاة أيام أقرائك» أعني: الأيام التي جرت خلق المرأة و عادتها بالرؤية فيها، و لا يتحقّق لها عند العرف أيام القرء، إلّا بعد تحقّق العادة على شي ء معين.

و بالجملة: لا إشكال في شمول الرواية ما إذا تحقّقت العادة العرفية، من دون فرق بين شي ء من الأقسام المتقدمة، فتكون المرأة ملزمة بالأخذ بما تحقّق العادة

فيه على نحو تحقّق العادة، و لا يجوز لها التخلّف بالنسبة إلى شي ء تحقّق العادة فيه، و يجوز بالنسبة إلى غيره، هذا، إلّا أنّ الإمام- عليه السّلام- صرّح في روايتين بتحقّق

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 41

العادة في مرتين، و استدل بالنبوي و قال: إنّما اعتبرنا المرتين، لأنّ النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم قال:

«أيام أقرائك» بصيغة الجمع، و لم يقل أيّام قرئك، فجعل- عليه السّلام- أقل الجمع اثنين، مع أنّه في اللغة ثلاثة على أقل الأقوال فيه.

و كيف كان فهاتان الروايتان لا إشكال في حجيتهما بالنسبة إلى موردهما، يعني ما دخل تحت مدلولهما اللفظي.

فنقول: تتحقق العادة بالنسبة إلى المورد بالرؤية مرتين متماثلتين، و يرفع اليد عن متفاهم العرف في النبوي، و هو العادة العرفية المتوقفة على أزيد من ذلك بواسطة النص الخاص، فيوضع حكم الإلزام بالأخذ بما توافق فيه المرّتان، على المرأة في خصوص المورد، فإنّه و إن لم تتحقّق العادة عند العرف بهذا القدر القليل، و لكنّها تتحقّق في نظر الشارع فهي معتادة بالعادة الشرعية، دون العرفية، و حينئذ فإن كان مورد الروايتين اللتين هما الدليل على العادة الشرعية، و الصارفة للنبوي عن العادة العرفية إلى الشرعية، بحيث يشمل جميع الأقسام المسطورة فنعم المطلوب، و كذلك لو كان خاصّا ببعضها و لكن أمكننا تنقيح المناط في البعض الآخر.

و يبقى الإشكال في ما لو كان خاصّا بالبعض، و لم ينقح المناط في البعض الخارج، إذ حينئذ لا وجه لإجراء العادة الشرعية إلى هذا البعض الخارج، فإنّ الدليل على التعبد بحصول العادة مرتين، المفروض كونه قاصرا عن شموله، و النبوي أيضا بحسب ما يتفاهم منه العرف، ليس المستفاد منه سوى العادة العرفية،

و تفسير الإمام تعبد لا بدّ أن يقتصر في مورده. و اذن ففي البعض المذكور لم يبق سوى القول باعتبار العادة العرفية، فإنّه الشي ء الذي يكون عليه دليل و غيره

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 42

بلا دليل، و حينئذ فلا بدّ من النظر إلى مدلول الروايتين، حتى يعلم أنّه كيف ما يكون كمّا و كيفا فأحدهما قوله- عليه السّلام- في مضمرة سماعة.: «فإذا اتفق شهران عدّة أيّام سواء فتلك أيّامها» «1».

فنقول: الاحتمالات في مدلول هذه القضية بحسب مقام الثبوت منحصرة في ثلاثة:

الأوّل: أن يكون المراد هو الاستواء و التماثل المطلق: بأن يكون أيّام الحيض الأوّل، و أيّام الثاني متساويين و متماثلين في جميع الجهات، و هو: بأن يكون عددهما متحدا و وقتهما متحدا، فيحكم على هذا الاستواء بأنّه لو تحقّق بين مرّتين، كان العادة الشرعية متحققة، و كان المرأة محكومة بلزوم الأخذ بهذا الذي حصل لها العادة الشرعية فيه و هو العدد و الوقت، و على هذا فيكون مورد الرواية منحصرا في قسم واحد، و هو العادة الوقتية العددية، إمّا في خصوص المفردة أو مع المركبة، بناء على أنّ التوالي لا يفهم من لفظ الشهرين. و بعبارة أخرى، المناط يعلم أنّه ليس خصوص الشهرين المتواليين، بل المرتان و الحيضتان سواء كانتا متواليتين أم مفصولتين بحيضة مخالفة، و بالجملة فيبقى حينئذ سائر الأقسام من الوقتية المنفردة، و العددية المنفردة، سواء كانتا مفردتين أم مركبتين خارجة عن المدلول اللفظي، لقوله: «عدّة أيام سواء» لعدم تحقّق الاستواء من كل جهة فيها، فيبني الكلام على فهم الملاك و عدمه.

الثاني: أن يكون المراد الاستواء بين أيّام الحيضتين في الجملة، بحيث في أيّ جهة تحقّق الاستواء كان كافيا و موضوعا

لحكم لزوم الأخذ في هذه الجهة، فلو

______________________________

(1)- الوسائل: ب 7 من أبواب الحيض، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 43

حصل في العدد فقط كان لزوم الأخذ فيه فقط، و إن كان في الوقت فقط اختص لزوم الأخذ به، و إن كان في كليهما جرى اللزوم في كليهما، و على هذا فتشمل الرواية جميع الأقسام الثلاثة: من الوقتية، و العددية، و الوقتيّة العددية، إمّا في خصوص المفردة أو مع المركّبة على الكلام المتقدّم.

و الثالث: أن يكون المراد الاستواء في خصوص العدد، سواء تحقّق معه في الوقت أم لا، فموضوع الحكم و لزوم الأخذ حينئذ هو خصوص العدد، دونه مع الوقت عند تحقّقه، إذ هذا يستلزم الجمع بين اللحاظين المتنافيين، بيان هذا الإجمال: انّ المفروض على هذا المعنى لحاظ المتكلّم للعدد بلحاظ التقييد و الدخل في الموضوع، و لحاظ الوقت على نحو الإطلاق، و معنى لحاظ الإطلاق أنّه وجودا و عدما على السواء، فلا يتفاوت الحكم لا بعدمه و لا بوجوده، فإذا قيل أعتق رقبة، فمعنى إطلاقه انّه لا فرق في حكم وجوب العتق، بين حالة الكفر، و حالة الإيمان، إلى غير ذلك من الحالات و الصفات، فالمتكلّم لم يلاحظ لوجود شي ء منها و لا لعدم شي ء منها دخلا، بل لم يفرق بين وجودها و عدمها.

و حينئذ فنقول: معنى كون المتكلّم ملاحظا لمعنى الاستواء في العدد على وجه الإطلاق بالنسبة إلى الوقت، انّه لم ير في حكمه في قوله «فتلك أيّامها» و وجوب الأخذ بها دخلا للمساواة الوقتية، و لا لعدمها، بل جعله بلا دخل في هذا الحكم، و لا شك في أنّ مجرّد هذا، أعنى: الجعل بلا دخل و التسوية بين الوجود و العدم،

لا يكفي للحكم بلزوم أخذ الوقت عند حصول التساوي فيه، إذ هو يحتاج إلى لحاظ التساوي الوقتي بلحاظ الدخلي و التقييدي، و لا يكفيه اللحاظ اللادخلي الإطلاقي، فإنّ الحكم هنا ليس مجرّد عدم التنافي، بل المقصود هو الحكم بلزوم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 44

الأخذ، و هو لا يتم إلّا بلحاظ الدخل، مثلا الحكم بأنّ الرقبة المؤمنة لو وجدت وجب عتقها متعيّنا، يحتاج إلى لحاظ وصف الايمان على وجه الدخلية، و هو مناف مع لحاظ الرقبة على وجه الإطلاق، فهنا أيضا قد علق حكم ملزمية المرأة على الأيام التي تحقّق فيها الاستواء العددي مطلقا، سواء كان وجد فيها الاستواء في الوقت أم لا، و هذا لا يفيد الملزمية، إلّا بالعدد، و لا يفيد الملزمية بالوقت أيضا عند انضمام الاستواء فيه، و إلّا لزم لحاظ الاستواء في الوقت على وجه الموضوعية و الدخل، و هو مخالف لما فرض من ملاحظته على وجه عدم الموضوعية و عدم الدخل.

و بالجملة فعلى هذا الوجه لا تشمل الرواية سوى العددية، و الوقتية العددية أيضا، من حيث العدد دون الوقت و دون الوقتية، فهذه الوجوه التي يمكن فرض ظهور اللفظ المذكور أعني قوله: «عدة أيّام متساوية» في كل منها، و قد عرفت أنّه على بعضها تختص بالعددية الوقتية، و على بعضها تشمل الجميع، و على الثالث تختصّ بالعددية، و ليس هنا وجه آخر يكون مفاد الرواية عليه اعتبار العددية و الوقتية العددية، من حيث العدد و الوقت معا. و قد حاول شيخنا المرتضى حمل الرواية على هذا، و أنت تعلم عدم استقامته على الوجهين الأوّلين. و أمّا على الوجه الأخير: بأن يؤخذ العدد على وجه القيدية و الوقت على وجه

الإطلاق، يستلزم الجمع بين اللحاظين المتنافيين، كما بيّنا فاحفظ ذلك، فإنّه إشكال على شيخنا غير ممكن الذب، و أصله على ما نقله الأستاذ- دام ظله- من مجلس إفادة سيد الأساتيذ: الميرزا الشيرازي- قدّس اللّٰه نفسه الزكية. هذا بحسب مقام الثبوت.

و أمّا مقام الإثبات و تعيين ما هو الأظهر من الوجوه الثلاثة: فالحق أنّه الوجه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 45

الأخير، و ذلك لأنّ إطلاق عدّة أيام متساوية صريح في العدد، و أمّا الوقت فيحتاج إلى تصريح و تقييد بقولنا في الوقت، و إذن فيبقى غير العددية خارجا عن مورد الرواية، و الإنصاف عدم إمكان تنقيح المناط فيها أيضا: بأن نعلم أنّ العادة عند الشارع في خصوص الوقت أيضا تكون بتساوي الحيضتين، كما علم بالدليل اللفظي في العدد، و إذن فلا محيص عن توقف حكم المرجعية، و لزوم الأخذ في الوقت على حصول العادة العرفية، المتوقفة على استواء الكرّات العديدة، و كذا في العادة المركبة، فإنّ الإنصاف خروجها أيضا عن مورد الرواية، و على هذا فيحصل التفكيك بين العادة المفردة العددية و سائر الأقسام، فالمعتبر في الأوّل هو الشرعية، و في الثاني هو العرفية، و لكن المتراءى من كلماتهم عدم الفرق بين الأقسام، في الحكم بتحقّق العادة في الجميع بالاستواء مرّتين.

ثمّ من الكلام في هذه الرواية يعلم الحال في الرواية الثانية، و هو قوله في مرسلة يونس الطويلة: «فإن انقطع الدم في أقلّ من سبع أو أكثر، فإنّها تغتسل ساعة ترى الطهر و تصلّي، و لا تزال كذلك حتى تنظر ما يكون في الشهر الثاني، فإن انقطع الدم لوقته في الشهر الأوّل حتى توالى عليه حيضتان أو ثلاث، فقد علم الآن انّ ذلك قد صار

لها وقتا و خلقا معروفا تعمل عليه و تدع ما سواه، و يكون سنّتها فيما تستقبل إن استحاضت قد صارت سنّة أن تجلس أقرائها، و إنّما جعل الوقت أن توالى عليه حيضتان أو ثلاث، لقوله رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم للتي تعرف أيامها:

دعي الصلاة أيّام أقرائك، فعلمنا انّه لم يجعل القرء الواحد سنّة لها، و لكن سنّ لها الأقراء و أدناه حيضتان فصاعدا». الخبر.

فإنّها أيضا لا تفيد سوى العادة العددية، لعدم تعرّضه للوقت بقرينة قوله

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 46

«من سبع أو أكثر، فيكون المراد بقوله: «لوقته في الشهر» هو اليوم الذي تم فيه الدم كالخامس، أو السادس، أو الثامن، يعني كان انقطاع الدم في الشهر الثاني في زمان انقطاعه في الشهر الأوّل، فإن كان انقطاعه في الأوّل على سبعة أيام، كان في الثاني أيضا كذلك، و إن كان على خمسة في الأوّل فكذا في الثاني و هكذا، و يجري تمام الكلام في الرواية المتقدّمة هنا أيضا. فتدبر.

ثمّ إنّ المرسلة الشريفة لاشتمالها على فوائد كثيرة، ينبغي التيمّن هنا بذكرها بتمامها مع طولها اقتفاء بشيخنا المرتضى- قدّس سرّه.

فنقول: روى الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى، عن يونس ابن عبد الرحمن، عن غير واحد، أنّهم سألوا أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الحائض و السنّة في وقته، فقال: «إنّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم سنّ في الحيض ثلاث سنن، بين فيها كل مشكل لمن سمعها و فهمها حتى لم يدع لأحد فيه مقالا بالرأي، أمّا إحدى السنن فالحائض التي لها أيام معلومة قد أحصتها بلا اختلاط عليها، ثمّ استحاضت فاستمر بها الدم، و هي

في ذلك تعرف أيامها و مبلغ عددها، فإنّ امرأة يقال: لها فاطمة بنت أبي حبيش، استحاضت فاستمرّ بها الدّم فأتت أم سلمة- رضي اللّٰه عنها- فسألت رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم عن ذلك؟ فقال: تدع الصلاة قدر أقرائها أو قدر حيضها، و قال: إنّما هو عرق فأمرها أن تغتسل و تستثفر بثوب و تصلّي.

قال أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام-: هذه سنّة النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم في التي تعرف أيام أقرائها و لم تختلط عليها، ألا ترى أنّه لم يسألها كم يوم هي، و لم يقل: إذا زادت على كذا يوما فأنت مستحاضة، و إنّما سنّ لها أياما معلومة ما كانت لها من قليل أو كثير بعد أن تعرفها، و كذلك أفتى أبي- عليه السّلام- و سئل عن المستحاضة فقال: إنّما ذلك عرق

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 47

عاند أو ركضة من الشيطان فلتدع الصلاة أيام أقرائها، ثمّ تغتسل و تتوضأ لكل صلاة قيل: و إن سال؟ قال: و إن سال مثل المثعب.

قال أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام-: هذا تفسير حديث رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم و هو موافق له، فهذه سنّة التي تعرف أيام أقرائها و لا وقت لها إلّا أيامها قلّت أو كثرت.

و أمّا سنّة التي كانت لها أيام متقدّمة، ثمّ اختلط عليها من طول الدم و زادت و نقصت، حتى أغفلت عددها و موضعها من الشهر، فانّ سنّتها غير ذلك، و ذلك أنّ فاطمة بنت أبي حبيش أتت النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم فقالت: إنّي أستحاض و لا أطهر، فقال النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و

سلم: ليس ذلك بحيض و إنّما هو عرق فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، و إذا أدبرت فاغسلي عنك الدم و صلّي، فكانت تغتسل في كل صلاة و كانت تجلس في مركن لأختها فكانت صفرة الدم تعلو الماء.

فقال أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام-: أما تسمع رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم أمر هذه بغير ما أمر به تلك، ألا تراه لم يقل لها: دعي الصلاة أيام أقرائك، و لكن قال لها: إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، و إذا أدبرت فاغتسلي و صلّي، فهذا يبيّن أنّ هذه امرأة قد اختلط عليها أيامها، لم تعرف عددها و لا وقتها، ألا تسمعها تقول: إنّي أستحاض و لا أطهر. و كان أبي- عليه السّلام- يقول: إنّها استحيضت سبع سنين، ففي أقل من ذلك يكون الرّيبة و الاختلاط، فلهذا احتاجت إلى أن تعرف إقبال الدم من إدباره، و تغيّر لونه من السواد إلى غيره، و ذلك انّ دم الحيض أسود يعرف و لو كانت تعرف أيامها، ما احتاجت إلى معرفة لون الدم، لأنّ السنّة في الحيض أن يكون الصفرة و الكدرة فما فوقها في أيام الحيض إذا عرفت حيضا كلّه، إن كان الدم أسود أو غير ذلك، فهذا يبين لك انّ قليل الدم و كثيره أيام الحيض حيض كلّه، إذا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 48

كانت الأيام معلومة، فإذا جهلت الأيام و عددها احتاجت إلى النظر حينئذ إلى إقبال الدم، و إدباره، و تغير لونه ثمّ تدع الصلاة على قدر ذلك، و لا أرى النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم قال: اجلسي كذا و كذا يوما فما زادت فأنت مستحاضة، كما لم تؤمر الأولى بذلك،

و كذلك أبي- عليه السّلام- أفتى في مثل هذا، و ذاك انّ امرأة من أهلنا استحاضت فسألت أبي عن ذلك؛ فقال: إذا رأيت الدم البحراني فدعي الصلاة، و إذا رأيت الطهر و لو ساعة من نهار فاغتسلي و صلّي.

قال أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام- فأرى جواب أبي- عليه السّلام- هنا غير جوابه في المستحاضة الأولى، ألا ترى أنّه قال: تدع الصلاة أيام أقرائها، لأنّه نظر إلى عدد الأيام و قال هاهنا: إذا رأيت الدم البحراني فلتدع الصلاة، و أمرها هنا أن تنظر إلى الدم إذا أقبل و إذا أدبر و تغيّر، و قوله البحراني شبه قول النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: إنّ دم الحيض يعرف، و إنّما سمّاه بحرانيا لكثرته و لونه. و هذا سنّة النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم في التي اختلط عليها أيّامها حتى لا تعرفها، و إنّما تعرفها بالدم ما كان من قليل الأيام و كثيره.

قال: و أمّا السنّة الثالثة فهي للتي ليس لها أيّام متقدّمة، و لم تر الدم قط، و رأت أوّل ما أدركت و استمر بها، فإنّ سنّة هذه غير سنّة الأولى و الثانية، و ذلك أنّ امرأة يقال لها حمنة بنت جحش أتت رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم فقالت: إنّي استحضت حيضة شديدة؟ فقال لها: احتشي كرسفا، فقالت: إنّه أشد من ذلك إنّي أثجه ثجا؟ فقال:

تلجّمي و تحيّضي في كل شهر في علم اللّٰه ستة أيّام أو سبعة، ثمّ اغتسلي غسلا و صومي ثلاثة و عشرين يوما، أو أربعة و عشرين، و اغتسلي للفجر غسلا و أخرى الظهر و عجّلي العصر، و اغتسلي غسلا و أخرى المغرب و

عجّلي العشاء و اغتسلي غسلا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 49

قال أبو عبد اللّٰه- عليه السّلام-: فأراه قد سنّ في هذه غير ما سنّ في الأولى و الثانية، و ذلك لأنّ أمرها مخالف لأمر هاتيك، ألا ترى أنّ أيّامها لو كانت أقل من سبع و كانت خمسا، أو أقل من ذلك ما قال لها: تحيّضي سبعا، فيكون قد أمرها بترك الصلاة أياما و هي مستحاضة غير حائض، و كذلك لو كان حيضها أكثر من سبع، و كانت أيامها عشرا أو أكثر، لم يأمرها بالصلاة و هي حائض، ثمّ ممّا يزيد هذا بيانا قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: «تحيّضي»، و ليس يكون التحيّض إلّا للمرأة التي تريد أن تكلّف ما تعمل الحائض، إلا تراه لم يقل لها أياما معلومة تحيضي أيام حيضك، و ممّا يبيّن هذا قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم. في علم اللّٰه، لأنّه قد كان لها و إن كانت الأشياء كلّها في علم اللّٰه و هذا بيّن واضح، إنّ هذه لم تكن لها أيّام قبل ذلك قطّ، و هذه سنّة التي استمر بها الدم أوّل ما تراه أقصى وقتها سبع، و أقصى طهرها ثلاث و عشرون حتى يصير لها أيام معلومة فتنتقل إليها.

فجميع حالات المستحاضة تدور على هذه السنن الثلاث، لا تكاد أبدا تخلو من واحدة منهن، إن كانت لها أيام معلومة من قليل أو كثير، فهي على أيامها و خلقها الذي جرت عليه، ليس فيه عدد معلوم موقت غير أيامها، فإن اختلطت الأيام عليها و تقدّمت و تأخّرت و تغير عليها الدم ألوانا، فسنّتها إقبال الدم و إدباره و تغيّر حالاته، و إن لم تكن لها أيّام

قبل ذلك و استحاضت أوّل ما رأت فوقتها سبع، و طهرها ثلاث و عشرون، فإن استمر بها الدم أشهرا فعلت في كل شهر كما قال لها، فإن انقطع الدم في أقل من سبع أو أكثر من سبع، فإنّها تغتسل ساعة ترى الطهر و تصلّي، و لا تزال كذلك حتى تنظر ما يكون في الشهر الثاني، فإن، انقطع الدم لوقته في الشهر الأوّل سواء حتى توالى عليها حيضتان أو ثلاث فقد

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 50

علم الآن، انّ ذلك قد صار لها وقتا و خلقا معروفا تعمل عليه و تدع ما سواه، و تكون سنتها في ما تستقبل إن استحاضت فقد صارت سنّة ان تجلس أقرائها، و إنّما جعل الوقت ان توالى عليها حيضتان أو ثلاث، لقوله رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم للتي تعرف أيامها: «دعي الصلاة أيّام أقرائك، فعلمنا أنّه لم يجعل القرء الواحد سنة لها فيقول دعي الصلاة أيام قرئك»، و لكن سنّ لها الأقراء و أدناه حيضتان فصاعدا، و إذا اختلطت عليها أيّامها فزادت و نقصت، حتى لا تقف بها على حدّ و لا من الدّم على لون عملت بإقبال الدم و إدباره و ليس لها سنّة غير هذا، لقول رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم:

إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، و إذا أدبرت فاغتسلي، و لقوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: إنّ دم الحيض أسود يعرف، كقول أبي- عليه السّلام- إذا رأيت الدم البحراني فإن لم يكن الأمر كذلك و لكن الدم أطبق عليها فلم تزل الاستحاضة دارّة و كان الدم على لون واحد، و حالة واحدة فسنّتها السبع، و الثلاث و

العشرون، لأنّها قصّتها كقصّة حمنة حين قالت: إنّي أثجه ثجا». «1» انتهى الخبر.

قوله: «و السنّة في وقته» المراد بالسنّة ما كان مأخوذا من قول الرسول صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم، أو فعله، أو تقريره، أو واحد من نوابه- صلوات اللّٰه عليهم- في مقابل الفرض و هو ما كان مأخوذا من القرآن الكريم، لا أن يكون المراد بالسنّة المندوب في قبال الفرض بمعنى الواجب و قوله: «وقته» أي حيضه.

قوله- عليه السّلام-: «تعرف أيامها و مبلغ عددها» يعني كانت في ذلك الاستمرار عارفة بالوقت و العدد لحيضها معا، و كانت صاحبة عادة وقتية و عددية، و ليس قوله: «و مبلغ عددها» عطفا تفسيريا لقوله: «أيامها» حتى يكون المراد

______________________________

(1)- الفروع: ج 3، كتاب الحيض، ص 83، ح 1.

التهذيب: ج 2، باب 19، في الحيض و الاستحاضة و النفاس، ص 381، ح 6.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 51

عرفان العدد فقط، و كونها صاحبة عادة عددية، فإنّ على ما ذكرنا على فرض كونه خلاف الظاهر شواهد من نفس الرواية، و من خارجها نذكر بعد ذلك إن شاء اللّٰه تعالى.

قوله- عليه السّلام- «فاطمة بنت أبي حبيش»- قال في مجمع البحرين: فاطمة بنت أبي حبيش- بمهملة و موحدة و معجمة مع التصغير، و اسمه قيس بن عبد المطلب- الأسدية صحابية.

قوله- عليه السّلام- «استحاضت» قد يطلق الاستحاضة في الاخبار في استمرار الدم و تجاوزه عن العشرة، دون ما كان في قبال الحيض، و الشاهد عليه تلك الرواية الشريفة.

قوله- عليه السّلام-: «فسألت» الضمير في سألت راجع إلى أم سلمة، و سلمة بفتح السين و اللام معا، كما يؤخذ من بعض كتب اللغة.

قوله- عليه السّلام-: «أو قدر حيضها» الظاهر أنّ الترديد

من الراوي.

ثمّ إنّ هذه الرواية بحسب ملاحظة صدرها في غاية الظهور و اتضاح الدلالة، على حصر سنن المستحاضة في الشقوق الثلاثة المذكورة فيها، بحيث إنّ الخارج عن هذه الشقوق معدوم، و ذلك لأنّه صرّح بأنّه قد بيّن كل مشكل في هذه الثلاثة، و لم يدع موضعا للمقال بالرأي بأن كان هنا مشكل لم يبيّن حكمه حتى يبقى فيه مجال للرأي، و إذن فالمهم ملاحظة تلك الشقوق و التكلّم في تعيينها بحسب الاستظهار من الرواية.

فنقول: ظاهر الشق الأوّل بحيث لا يكاد أن يتأمّل فيه هو صاحبة العادة الوقتية و العددية، و ذلك مضافا إلى شهادة غير موضع من الرواية عليه مثل قوله

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 52

«و هي في ذلك تعرف أيامها و مبلغ عددها» و أمثاله، لأنّ الرواية جاعلة للمرجع للمرأة في القسم الأوّل إلى العادة ليس إلّا، و من جميع الجهات و الحيثيات. و جاعلة للمرجع لها في الشق الثاني بعد عدم الأوّل، هو التميّز ليس إلّا من جميع الجهات و الحيثيات، فتدل على أنّ المرأة التي تكليفها الرجوع إلى العادة، ليس تكليفها مطلقا الرجوع إلى الدم و بالعكس. و الحاصل: أنّ التميز ليس بمأخوذ مع العادة مطلقا، و هذا المعنى لا يستقيم إلّا: بأن يكون المراد بالمرأة في الشق الأوّل من تعرف أيامها وقتا و عددا، فإنّه لو كان الأعم منها، و من التي تعرف العدد فقط، أو الوقت فقط لما استقام هذا المعنى، إذ حينئذ لا مرجع للمرأة بالنسبة إلى الوقت في الأوّل، و العدد في الثاني سوى التميّز، فإنّ العادة في العدد إنّما تكون أمارة بالنسبة إلى إثبات القدر الخاص، و نفي الزائد، و الناقص، و لو مع وجود

التميّز على أحدهما، ففي هذه الجهة غاية الأمر ممانعة العادة عن التميز.

و أمّا بالنسبة إلى الوقت فلا معارضة لها معه، و أدلّة اعتبار الصفات بعمومها تشمله، و الإجماع أيضا قائم بذلك، أعني: على أنّ المرأة التي استقر عادتها على عدد معين في أوقات مختلفة، لو كان في دمها عند الاستمرار تميز تعيّن عليها جعل العدد المعين في أوقات التميز، و كذا بالنسبة إلى من استقر عادتها في الوقت المعين مع اختلاف العدد، فيتعين عليها اختيار العدد الذي وجد فيه التميز، دون الزائد و الناقص، هذا.

و الحال أنّا فرضنا أنّ الرواية تنادي: بأنّ من كانت من الشق الأوّل لا رجوع له إلى التميّز أصلا، و لا يجتمع مع الرجوع إلى العادة رجوع إلى التميز أصلا، فلو بني على عموم الشق الأوّل لذات العادة العددية، أو الوقتية ما تم هذا، فلا جرم لا بد من كون المراد به ذات العادة من حيث العدد و الوقت معا، و الحمل على

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 53

الحكم الحيثيتي أيضا خلاف الظاهر: بأن يقال: إنّ المراد انّ من حصل له معرفة أيامها، فهي من حيث موضع هذا العرفان، لا رجوع له إلى التميّز، و لا منافاة لأن يكون له رجوع إليه من حيث آخر لا معرفة فيها، فانّ الظاهر أنّ المرأة في الشقّ الأوّل تعرف أيامها و لا تحتاج إلى صفات الدم أصلا، و لو بني على أنّ المراد بالمرأة في الشق الأوّل و إن كان ما ذكر، أعني: صاحبة العادة في الوقت و العدد، و لكن موضوع الشق الثاني و هو من يرجع إلى صفات الدم، هو فاقد كلتا العادتين أيضا، ففاقد كلتيهما إن كان واجدا للتميّز فهو

موضوع الشق الثاني، أعني: الرجوع إلى التميز، و إن كان فاقدا له فهو موضوع الثالث، أعني: الرجوع إلى الروايات. فتبقى صاحبة العادة في العدد فقط، و في الوقت فقط، سواء كانتا مع التميز أم بدونه خارجتين عن الشقوق الثلاثة، فلا تعرض لها في الرواية أصلا، فتعمل فيهما على القواعد: و هو الرجوع إلى العادة في مقدار العادة، و في غيره إلى التميز إن كان، و إلى الروايات إن لم يكن. فلا إشكال أنّ هذا يكون حينئذ عين المقال بالرأي. و مشكلا رابعا غير ما ذكر في الرواية، فإنّ الرواية ناطقة بانقسام المرأة إلى قسمين: الأوّل: من ينحصر مرجعه في العادة، و الثاني: من ينحصر في غيرها، ثمّ الثاني ينقسم إلى قسمين بحسب وجدان التميّز و عدمه، و على هذا يحدث في البين قسم رابع، و هو المرأة التي يكون المرجع لها العادة و التميّز معا، أو العادة و الروايات معا، فيصير هذا حكما غير مذكور في الرواية قد احتجنا في إثباته إلى المقال بالرأي، فكان اللازم تقسيم المرأة إلى خمسة أقسام، الثلاثة المذكورة، و الرابع، من تعرف عدد أيامها فقط دون وقتها، فهي تأخذ بعادتها في العدد و بالتميز في الوقت مع وجوده، و مع عدمه يتخير، و الخامس من تعرفها من حيث الوقت دون العدد، فتأخذ بالعادة في الوقت و بالتميز في العدد مع وجوده، و إلى الروايات مع عدمه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 54

و بالإجمال: الأمر في هذه الرواية يدور بين أمور ثلاثة:

[الأمر] الأوّل: أن يؤخذ بالحصر المستفاد من صدرها، و يحمل الحكم في الشق الأوّل، و الثاني على الحيثيتي:

بأن يقال: المرأة بالنسبة إلى ما تحقّق لها العادة فيه مأخوذة بالعادة، سواء

كان هو العدد فقط، أم الوقت فقط، أم هما معا، و بالنسبة إلى ما لا يتحقّق لها العادة فيه مأخوذة بالتميّز مع وجوده، و بالرواية في خصوص العدد مع عدمه. و لا يخفى انّه على هذا يستقيم الحصر مع دخول العادة في العدد فقط، و في الوقت فقط في الرواية، و قد عرفت أنّ هذا خلاف ظاهر الرواية، فإنّ ظاهرها الحكم الفعلي من جميع الجهات، و أنّ التي مرجعها العادة لا يكون التميّز مرجعا لها، و التي مرجعها التميّز لا تكون العادة مرجعا لها، و انّ مورد التميّز في صورة فقد العادة، و لا يحصل للمرأة حالة صارت معها موردا للعادة و التميّز معا، فتأمّل في الرواية بالتأمّل الصادق، حتى يظهر لك إن شاء اللّٰه تعالى حقيقة هذا.

و الأمر الثاني: أن نسلّم تعرّض الرواية للحكم الفعلي دون الحيثيتي و ظهورها في ترتب التميّز على العادة بحسب المورد، و لكن يقال بخروج صورة العادة الوقتية فقط، و العددية فقط عن مورد الرواية، ثمّ المشي فيهما على حسب القواعد، و هذا كما عرفت تصرّف في صدور الرواية و إغماض عنه، مع قوة دلالته على نفي الشق الرابع، بحيث يأبى عن التصرف، فيتعين حينئذ.

الأمر الثالث: و هو أن يبقى كلا الظهورين على ظهورهما بأن يقال: بحصر الأقسام في الثلاثة، مع كون الحكم في الشقين على نحو الترتب، من دون

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 55

اجتماعهما في مورد و هو: بأن نحكم بدخول العادة الوقتية فقط و العددية فقط في الشق الثاني، و انّ المرأة لا تعتني مع وجود إحدى هاتين العادتين بها، بل تلاحظ أوصاف الدم فإن كان، كان هو المرجع له سواء طابق عادتها في العدد،

أو الوقت أم لا، و إن لم يكن فالمرجع لها الروايات من حيث العدد، و التخيير من حيث الوقت، فلا رجوع لها إلى عادتها الوقتية أو العددية بحال، و على هذا فموضوع الشق الثاني في الرواية، من ليس له العادة في الوقت و العدد معا، سواء كانتا معا منتفيتين أم انتفت إحداهما مع تحقّق الآخر، فالمراد عدم وجدان العادتين من حيث الجمع.

لكن يشكل على هذا: بأنّه يلزم أن تكون العادة الوقتية معتبرة في نظر الشارع، مع الانضمام بالعددية، و مع الانفراد فهو ملغى صرف كالمعدوم، و كذا العددية و هو مع غرابته و استبعاده مخالف في خصوص العددية، مع مضمرة سماعة المتقدمة الدالة على اعتبار العادة العددية في نظر الشرع مطلقا، سواء انضمت مع الوقتية أم لا.

و لكن يندفع الأوّل: بأنّه ليس من المستبعد في شي ء أن يكون تكرر الحيض مرتين، في العدد و الوقت معا معتبرا بنظر الشرع و أمارة، لأنّه بمنزلة أربع تكررات مرتان في العدد، و مرتان في الوقت، و أمّا التكرر مرتين في واحد منهما فقط، لم يكن له بنظره أمارية، فهذا أيضا نظير العدل الواحد، حيث إنّه بانفراده لا تكون أمارة شرعية و مع انضمام إلى مثله يكون، و يندفع الثاني: بأنّه بعد ما فهمنا ذلك من المرسلة حق الفهم، فالتصرف في المضمرة يكون سهلا، إذ دلالته على اعتبار الاستواء في العدد فقط ليست إلّا في أوّل درجة من الظهور، بحيث لا يقاوم مع مثل هذا الظهور الذي ذكرناه للمرسلة، فلا بدّ من رفع اليد عنه بقرينة المرسلة و حملها

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 56

على الاستواء من كل جهة، حتى ينطبق على الوقتية العددية معا، فيرتفع المنافاة من

البين.

ثمّ لا يخفى أنّ موضوع الكلام في المرسلة، إنّما هو في ما كانت المرأة متحيّرة بأن لا تكون في البين أمارة عرفية، لم يخطئها الشرع قائمة على تعيين التكليف بحيث لا يبقى معها التحيّر عرفا، إذ حينئذ تصير تحت الموضوع المشكل، و محتاجة إلى الرجوع إلى دار علم الرسول، و الأئمّة- صلوات اللّٰه عليهم- مثل فاطمة بنت أبي حبيش، و حينئذ فإذا حصل للمرأة إمّا في العدد فقط، و إمّا في الوقت فقط التكرر المحصل للعادة العرفية، مثل التكرّر في عشر سنين مثلا على نسق واحد، إمّا في العدد أو في الوقت، فهي بالنسبة إلى ما يحصل فيه هذا التكرر خارجة عن موضوع المتحيرة، لقيام الأمارة العرفية التي لم تعلم من الشرع تخطئتها على تعيين الحال.

نعم هي باقية في هذا الموضوع بالنسبة إلى ما لم يحصل فيه هذا التكرر، و حكمه مذكور في الرواية و هو الأخذ بالتميّز، فلا يشكل بأنّه ممّا ينقض به الحصر في الرواية، إذ هذه امرأة ترجع إلى العادة و التميّز معا، و المستفاد من الرواية نفي هذا القسم، فانّ الجواب أنّ هذا الحصر إنّما هو في موضوع المتحيرة المحتاجة إلى السؤال من الشرع، فالتفكيك بين العادة و التميّز بالأخذ بأحدهما في جهة، و بالآخر في أخرى غير متحقّق في هذا الموضوع، و المثال ليس على خلاف هذا، إذ يصدق مع ذلك انّ المتحيرة في الجهة التي هي متحيرة أبدا، إمّا مرجعها العادة فقط، و إمّا التميّز فقط، و لا يكون مرجعها في وقت هما معا، فتحصل من هذا انّ العديدة فقط، و الوقتية فقط لا تحصلان بالتكرر مرتين، مع حصولهما بالتكرر مرات

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 57

عديدة تحصل

بها السجيّة و الطبيعة الثانوية.

إلّا أن يقال: إنّ المصرّح به في موضعين من كلمات شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- دعوى عدم القول بالفصل بين الحصول بأزيد من مرّتين، و بين الحصول بهما، فلا بدّ على هذا من القول بتحقّق الوقتية فقط و العددية فقط أيضا بالمرّتين، لعدم القول بالفصل، فيكون هذا قرينة على رفع اليد عن الحصر المستفاد من صدر الرواية.

و فيه مع أنّ هذا كما عرفت تصرف فاحش في الرواية مع إبائها عن مثله، انّه يظهر من شيخنا- قدّس سرّه- عدم جزمه بهذا الإجماع، ألا ترى أنّه بقي على التردّد و الإشكال في آخر كلامه، فلاحظ كلامه حتى يتبيّن لك الحال.

ثمّ لا فرق في حصول العادة بالمرتين، في ما قلنا بالتحقّق بالمرّتين فيه، وقتا كان أم عددا أم كليهما، بين تعدد الشهر الهلالي مرّتين و عدمه، فالمعيار على ما يستفاد من الرواية، إنّما هو توالي الحيضتين من دون مدخلية للشهر فيه، و التعبير به في المضمرة و المرسلة، إنّما هو لأجل انّ الغالب حصول التكرر فيهما، و إلّا فلو حصل التكرر في الحيض و القرء في الشهر الواحد تحقّق العادة، و ذلك انّ الإمام استشهد لاعتبار التعدّد بقول النبي صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: دعي الصلاة أيام أقرائك، و منه يعلم أنّه ليس المعتبر في تحقّق العادة الشرعية، سوى التكرر في القراء الذي هو مسمّى الأقراء بصيغة الجمع، و على هذا فلو تكرّر العدد في شهر واحد مرتين متماثلتين، كأن رأت في أوّل العشر الأوّل من الشهر خمسة، و في أوّل العشر الثالث أيضا خمسة استقر لها العادة على الخمسة، فلو استمر بها الدم في الشهر الثاني كان حيضها خمسة، هذا في العدد،

و كذا يمكن تحصيل الوقت أيضا بالتكرر مرتين في الشهر

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 58

الواحد، كما لو رأت مرتين في الشهر الواحد الدم في اليوم الحادي عشر من الطهر، و هو يحتاج إلى ثلاث حيضات بينها طهران متساويان، كما لو رأت أياما ثمّ طهرت عشرة أيام، فرأت من الحادي عشر إلى أيام ثمّ طهرت عشرة أيام، ثمّ رأت في الحادي عشر إلى أيام، ففي الدفعة الرابعة هي صاحبة عادة وقتية، بمعنى أنّ أوّل وقت حيضها كل حادي عشر من الطهر، و منه يعلم حصول العادة في الوقت و العدد معا، بالتكرر مرتين في شهر واحد، كما لو رأت في شهر واحد مرتين في الحادي عشر من طهرها إلى خمسة أيام، ثمّ انقطع، فلو استمر بها الدم في الشهر الثاني فهي تجعل أوّل الشهر خمسة أيام حيضا، و بعده عشرة أيام طهرا، و بعده خمسة أيام حيضا.

و هكذا الكلام في الأزيد من الشهرين الهلاليين، بمعنى أنّ تحقّق العادة في الوقت يتوقّف على مضي طهرين متساويين، المتوقّف على ثلاث حيضات حتى يتخلّل بينها طهران، و كان مقدارهما متساويا، كما لو كان خمسة و خمسين يوما فتصير المرأة ذات عادة بالتحيّض في رأس كل خمسة و خمسين يوما من الحيض السابق، و على هذا فلو رأت أوّل الشهر الأوّل خمسة و لم تر بقية الشهر، و لإتمام الشهر الثاني ثمّ رأت في أوّل الثالث خمسة، فلا تصير بمجرد ذلك صاحبة عادة وقتية، فلو استمر بها الدم في الرابع ليس سنتها جعل عدد الخمسة في الأوّل معينا، إذ لم تعتد بالرؤية في رأس كل شهر، لعدم اتّفاق توالي المرتين كذلك، لتخلّل الشهر الثاني بياضا في البين، و

لم تعتد أيضا بالرؤية في رأس كل خمسة و خمسين يوما، إذ لم يتكرّر عليها ذلك مرّتين، فيحتاج إلى مضي الشهر الثالث و الرابع، ثمّ رؤية الدم في أوّل الخامس حتى يحصل لها العادة على النحو الثاني، فيثمر لها لو استمر الدم في السادس.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 59

نعم ربما يقال: إنّ المتحقّق في حقّ هذه المرأة قبل مضي هذه المدة، و إن لم يكن الاعتياد بالتحيّض في رأس كل شهر، و لكنّها تعتاد بذلك بأنّه متى تحيض كان حيضها في أوّل الشهر، و لكن هذا لا يفيد في الحكم يكون هذا الدم المرئي في أوّل الشهر حيضا عند الاستمرار، كما هو المهم، و العادة بهذا النحو لا تنهض إلّا بعد إثبات أصل الحيضية كما هو واضح، فتدبر.

ثمّ من هنا يعلم إمكان تحقّق العادة الملفقة، مثل ما لو رأت في شهر ثلاثة و في شهر أربعة، ثمّ في الرابع ثلاثة و في الخامس أربعة، فيحصل لها العادة الملفقة من العددين، بمعنى انّها لو صارت في الشهر السادس دامية إلى أشهر عديدة، فهي تجعل حيضها في كل فرد ثلاثة، و في كل زوج أربعة، و الدليل على ذلك ما ذكرنا: من أنّه ليس المعتبر سوى تكرر القرء مرتين على نسق واحد، من دون لزوم كون ذلك في شهرين هلاليين، إذ حينئذ و إن كان لم يحصل التكرر مرتين على النهج الواحد في شهرين متواليين، و لكن حصل في الأزيد من الشهرين، أعني:

مدّة مائة و عشرين يوما، ففي هذه المدة يصدق انّه قد تكرر القرء مرتين متواليتين على نسق واحد، و لا يستفاد من قوله: «أيّام أقرائك» إلّا تكرر النسق الواحد في مرّتين متواليتين، و هنا

أيضا حصل هذا، فإنّ الدورة الثانية حصلت موافقة للدورة الأولى موالية لها، غير مفصولة بما يخل بالنظام. و بالجملة بعد إلغاء قيد الشهر الهلالي أظن أنّ هذا في غاية الوضوح.

فتحصّل من جميع ما ذكرنا من أوّل الرواية إلى هنا، تحقّق العادة الوقتية و العددية معا بالتكرّر مرتين، و عدم تحقّق الوقتية فقط و العددية فقط بهما، و لا فرق في العددية الوقتية أيضا بين حصول مرتيها، في شهرين هلاليّين، أو أقل منهما،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 60

و أقلّه تسعة و عشرون يوما و لا بين المفردة بأن يكون قوامها بوقت واحد و عدد واحد، و الملفقة و هي ما تكون قوامها إمّا بوقتين و عدد واحد، أو بعددين و وقت واحد، أو بعددين و وقتين. فتدبر.

هذا كلّه هو الكلام في صاحبة العادة الوقتية و العددية، و الناسية لهما و المبتدئة، كما هي موضوعات الشقوق الثلاثة في الرواية.

فربما يقال إنّ هنا، مع قطع النظر عن صاحبتي العادة الوقتية و العددية، قسمين آخرين لم يذكر في الرواية حكمهما:

الأوّل: من تكرّر عليها الدم مرات عديدة و كانت في الجميع مختلفة و لم يستقر لها عادة، و هي المضطربة بالمعنى الأخص.

و الثاني: من استقر لها العادة ثمّ حصل لها النسيان لعادتها، من غير سبق اختلاط أيام يورث الإغفال و النسيان، فعلى هذا يلزم إهمال الرواية لحكم أربعة أقسام، مع ما تراها عليه من الدلالة القوية في غير موضع على الحصر، بحيث لا يكاد يصححه القول بانّ تخصيص الأقسام المذكورة في الرواية بالذكر، إنّما هو لأجل كونها غالب الأفراد و ندرة وجود غيرها، فإنّ المرأة إذا كانت معتادة فالغالب حصول الاعتياد في الوقت و العدد معا، و إذا كانت

على اختلاط و عدم العادة، فالغالب حصول الاختلاط و الاختلاف بالنسبة إلى كلا الأمرين.

ثمّ واجدة التميّز غير ذات العادة بالفعل أيضا الغالب كونها ذات أيام متقدمة، ثمّ اختلطت عليها بواسطة كثرة الدم و قلّته، و فاقدة التميّز غير ذات العادة بالفعل تكون في الغالب مبتدئة، فالأمر في كل من الشقوق الثلاثة مبني على غالب الأفراد مع إهمال الفرد النادر.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 61

و لكنّك خبير بإباء الرواية عن هذا الحمل أشد الامتناع، و الذي ينبغي أن يقال: إنّ حكم جميع الأقسام المسطورة منحصر في السنن الثلاث، غاية الأمر عدم شمول موضوعاتها للجميع، لكن لنا قرينة تدل على ملغائيّة خصوصية الموضوعات، و هو قوله- عليه السّلام- في المرسلة الطويلة في ذيل كلامه الذي بمنزلة الملخص لما فصله أوّلا من السنن الثلاث: «فإن اختلطت عليها فزادت و نقصت حتى لا تقف بها على حد و لا من الدم على لون عملت بإقبال الدم و إدباره، إلى أن قال: فإن لم يكن كذلك و لكن الدم أطبق عليها، فلم تزل الاستحاضة دارّة و كان الدم على لون واحد فسنّتها السبع و الثلاث و العشرون، لأنّ قصّتها قصّة حمنة حين قالت: إنّي أثجه ثجا» فإنّ هذا الكلام في غاية الظهور في أنّ وجه الحكم في المبتدئة بالرجوع إلى الروايات كون دمها متحد اللون، فلذا لو كانت الناسة أيضا بهذه الحالة و القصّة كانت مرجعها أيضا الروايات، و يعلم منه بالمفهوم أنّ وجه الحكم في الناسية على وجه الإطلاق بالرجوع إلى التميّز، إنّما هو لكون لون دمها مختلفا، فلو كانت المبتدئة أيضا بهذه القصّة كان مرجعها أيضا هو التميّز.

فيعلم منها قاعدتان كلّيتان شاملتان لكل غير ذات عادة، من

غير فرق بين الناسية بقسميها المذكورين، و المبتدئة، و المضطربة.

الأولى: كلّما كان الدم مختلف اللون و واجدا للتميّز كان المرجع هو التميز.

و الثانية: كلّما كان الدم متحد اللون كان المرجع هو الروايات، و حينئذ فموضوعات الشقوق الثلاثة ذات العادة الفعلية من حيث العدد و الوقت، و واجدة التميّز و فاقدته، فيلزم ملغائية العادة في الوقت فقط، أو العدد فقط عند الشرع و عدم حصولها بمرتين، فتكون داخلة تحت أحد القسمين الأخيرين، أعني

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 62

واجدة التميّز و فاقدته.

ثمّ لو كان لنا دليل دلّ على رجوع المبتدئة إلى عادة أهلها أو أقرانها، لم يكن منافيا لهذه الرواية، إذا الدليل يكون حاكما عليها، و جاعلا لأيام الأهل و الأقران كأيام نفس المرأة، فمن كان لأهلها أو أقرانها أيام معلومة، و ليس لها أيام معلومة، فهي من أفراد من كانت لها أيّام معلومة الذي هو موضوع الشق الأوّل، و ليس من أفراد من ليس لها أيّام معلومة الذي هو موضوع الشقين الأخيرين، فلا منافاة في البين.

هذا غاية التوجيه للرواية و لكنّه بعد محل نظر و إشكال، فإنّه كما ترى طرح للعددية فقط و الوقتية فقط، و تحقّق الثانية و إن كان محلا للخلاف إلّا أنّ تحقّق الأولى الظاهر ثبوت الإجماع عليه، مع اعتضاده بظهور مضمرة سماعة

و كيف ما كان فهنا فروع
الأوّل: انّه لا إشكال في عدم تحقّق العادة العددية بتكرر الجامع

في ضمن العددين المختلفين، الأربعة في ما لو رأت في أحد الشهرين أربعة و في الآخر خمسة، و هي المسمّى بالعادة العددية الناقصة، و وجه ذلك أنّه أخذ بقرء واحد، و نص الرواية انّ رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم لم يجعل القرء الواحد سنّة، و إنّما سنّ الأقراء، فإنّ ظاهر تعدّد القرء مرتين

بعدد واحد، كون كل منهما بهذا العدد بشرط لا و هذا واضح.

الثاني: لو تعدّد أيام محكومية المرأة بالحيضية مرتين متماثلتين

و لم يكن مجموعها دما بل تخلّل فيها النقاء أيضا، بناء على أنّ النقاء المتخلّل في ضمن العشرة من الحيض تعبّدا، فله صورتان إمّا يتساوى أيام الدم و أيام النقاء معا،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 63

و إمّا أن تختلفا، فإن اختلفت كأن رأت في شهر أربعة دما، ثمّ واحدا نقاء، ثمّ ثلاثة دما، و في آخر ثلاثة دما، ثمّ اثنين نقاء، ثمّ ثلاثة دما، حيث إنّ عدد أيام محكوميتها بالحيضية و إن كانت في كليهما ثمانية، إلّا أنّ عدد أيّام الدم مختلف، فإنّه في الأوّل سبعة و في الثاني ستة، فالمستفاد من الأدلّة عدم تحقّق العادة أصلا، وجه ذلك أنّ دليل العادة منحصر كما عرفت في المضمرة و المرسلة المتقدمتين، و ظاهر كليهما كون العبرة بأيام الدم، فإنّ الحيضة اسم للدم مثل البول، دون الحالة القائمة بالمرأة الكاشف عنها الدم، و القرء أيضا اسم للدم، فلا يستفاد منهما سوى تساوي الدمين، و حينئذ لا بدّ من النظر إلى دليل إلحاق النقاء بالحيض و لا إشكال أنّه تنزيل، فلا بدّ أن يؤخذ به في القدر المتيقّن من الآثار، فإن ثبت التنزيل في تمام الآثار بأن كان النقاء مثل سيلان الدم حقيقة عند الشرع في الأحكام المخصوصة، و في تحقّق العادة كان العادة في المقام متحقّقة، فإنّ أيام الدم الحقيقي و إن كانت غير متساوية، و لكنّها مع الدم التنزيلي تصير متساوية، و أمّا إن لم يثبت التنزيل إلّا في الأحكام المخصوصة، فلا سبيل إلى تحقّق العادة في المقام كما هو واضح.

و لا يخفى أنّ دليل التنزيل على ما عرفته سابقا، ليس بأزيد من

الإجماع أو الشهرة العظيمة، فيكون لبيا و يؤخذ فيه بالقدر المتيقّن، و هو التنزيل في خصوص الأحكام المخصوصة: من ترك الصلاة و ترك اللبث في المساجد و أمثالهما.

و أمّا إن اتفقت أيّام الدم أيضا، كما لو رأت في الأوّل ثلاثة دما، ثمّ اثنين نقاء، ثمّ ثلاثة دما، و كذا رأت في الثاني فالمحكي في المسألة حينئذ أقوال ثلاثة:

الأوّل: أخذ العادة من مجموع أيّام الدم و النقاء، فتصير العادة في المثال ثمانية، و هو الذي قوّاه شيخنا المرتضى.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 64

و الثاني: أخذها من مجموع أيام الدم بدون النقاء، فتكون العادة في المثال ستة، و هو الذي قوّاه صاحب العروة الوثقى- دام ظلّه.

و الثالث: أخذها من خصوص أيّام الدم المتصلة دون النقاء، و دون الأيام المنفصلة بالنقاء، فتكون العادة في المثال ثلاثة.

و الحق هنا أيضا اختيار قول رابع، و هو عدم حصول العادة رأسا، و يدل عليه- بعد ما ذكر من استفادة أيام الدم من دليلي العادة و قصور دليل تنزيل النقاء عن شمول جميع الآثار، فإنّ قضية ذلك نفي القول الأوّل و هو الأخذ من مجموع الدم و النقاء- أنّ المستفاد من الدليلين أمران آخران أيضا.

الأوّل: الاتصال و الاستمرار بين أيّام الدم، فكما ذكرنا سابقا انّ ظاهر قوله:

«أقل الحيض ثلاثة» استمرار الدم فيها، كذلك ظاهر قوله: «إذا اتفق شهران عدّة أيّام سواء» هو الاستمرار في تلك العدة أيام، و كذا ظاهر قوله: «إذا انقطع الدم لوقته من الشهر الأوّل سواء» هو كونه مستمرّا إلى هذا الوقت، و سرّه ما تقدّم من أنّ نسبة الفعل الذي من شأنه الاستمرار إلى مقدار من الزمان، مثل مرض زيد ثلاثة أيام، ظاهرة في استمرار هذا الفعل

في جميع أجزاء هذا الزمان.

و بالجملة: الملازمة ثابتة بين فهم الاستمرار في المقامين، فلا يمكن التفكيك بينهما، و إذن فلا دليل على أخذ العادة من مجموع أيّام الدم المنفصلة كما هو القول الثاني.

و الثاني: كون انقطاع الدم في آخر زمانه انقطاعا لا عود له بعده عن قريب، فظاهر قوله: «إذا انقطع الدم لوقته» أن يكون انقطاعه بحيث لم يلحقه دم آخر محكوم بكونه من الحيض السابق، فعلى هذا لا يشمل الثلاثة المتصلة قبل أيّام

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 65

النقاء في المثال، فإنّها و إن كانت أيّام دم متصلة، و لكن لم ينقطع عليها الدم بوجه لم يعد في جملة العشرة، فالقول الثالث أيضا على خلاف الدليل، فبقي القول بعدم حصول العادة رأسا متعيّنا.

الفرع الثالث: لا إشكال في أنّه بعد ما رأت مرّتين متماثلتين، لو رأت على خلافهما مرتين متماثلتين أيضا كان المرتان الأخيرتان معتبرتين

و تتغيّر العادة إليهما و تكون العادة الثانية ناسخة للأولى.

و الدليل على ذلك أنّ الظاهر من المرسلة، كون العبرة بالأيام التي لا فاصلة بينها و بين الاستمرار، و ذلك أنّه حكم فيها بأنّ من كانت ذات أيام معلومة فاستمر بها الدم فهي على أيامها، يعني على أيامها السابقة على الاستمرار المتصلة به، دون الأيام المعلومة الكائنة قبل هذه الأيام المعلومة لو كانت.

و إنّما الإشكال فيما لو رأت مرّة أو مرّتين مختلفتين على خلاف العادة الأولى، فالظاهر من كلماتهم الفرق بين المرّة و المرّتين، و بين المرّات العديدة على غير نسق واحد، فقالوا بزوال العادة في الثانية و كون المرأة ملحقة بالمضطربة، و عدم زوالها في المرة و المرتين، و وجه ما ذكروه تخيّل أنّ حكم الشارع بحصول العادة بالمرتين المتوافقتين تخطئة منه لنظر العرف، فلا بدّ من معاملة العادة الحقيقية معهما، بعد تنبيه الشرع على كونهما من أفرادها.

و لا يخفى

أنّ العادة الحقيقية في مورد حصولها عند العرف، لا تزول بالمرة الواحدة المخالفة، و لا بالمرتين المتخالفتين، بل يحتاج إلى مرات عديدة على خلافها، فيعامل هذا مع الفرد الذي نبّه عليه الشرع.

و بالجملة تخطئة الشرع لنظر العرف إنّما ثبتت في ما يثبت به العادة، دون ما

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 66

يزيل العادة، فنظره في الثاني متّبع. هذا حاصل وجه ما ذكروه.

و أنت خبير بأنّ مبناه على فهم كون الحكم المذكور تخطئة، و معه لا محيص عن هذا الوجه، و لكن يمكن الخدشة في هذا المبنى و أنّه حكم تنزيلي، مع العلم بعدم تصرّف للشرع في الموضوع: أي نعلم أنّ موضوع العادة لا يتحقّق بالمرّتين حتى بعد حكم الشرع هذا. و لكن ألزمنا الشرع بترتيب آثار العادة عليه تعبّدا، فهذا من قبيل مواضع التنزيل، مثل قوله: «الطواف بالبيت صلاة» فإنّه ليس تخطئة للجزم معه بعدم كون الطواف صلاة، و مثل قوله لكثير الشك: «شكك علم و ليس بشك»، مع أنّه بحسب الوجدان يصح سلب اسم العلم عنه، و لا يصح سلب اسم الشك، و ليس هذا من قبيل مواضع التخطئة مثل البيع الربوي، حيث إنّ العرف زعموا أنّه ليس أكلا بالباطل، فنبّأهم الشرع بأنّه أكل بالباطل، أو أكل المارّة حيث زعم العرف أنّه أكل بالباطل، فنبّه الشرع أنّه غير أكل بالباطل، و ليس في هذه المواضع جزم و وجدان بعد حكم الشرع هذا، للعرف على خلافه، ففي هذه المواضع قد تصرّف الشرع في الموضوع و خطّأ نظر العرف على الخلاف، و العرف أيضا يدرك ذلك، و أمّا في المواضع التي يكون الجزم العرفي بعد حكم الشرع باقيا بحاله، فالعرف يدرك في مثل تلك المواضع

التنزيل.

فإذا ثبت كون الحكم هنا تنزيلا يلزم الاقتصار على القدر المتيقّن، و هو ما إذا لم يحدث مخالفة المرتين المتماثلتين أصلا حتى مرة واحدة، إذ عند حصول ذلك يحتمل كونه ناقضا عند الشرع لهذا الحكم التعبّدي، كما يحتمل أن لا ينتقض بالمرّات العديدة المتخالفة.

و بالجملة بعد قصور دليل التنزيل عن شمول صورة الخروج عن النظام،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 67

و لو في ضمن مرة واحدة يرجع إلى نظر العرف، و أنّهم يرون المرأة داخلة في موضوع من لها أيّام معلومة، أو في موضوع من ليس لها أيّام معلومة، و على أيّ حال فيحكم عليها بحكم هذا الموضوع، فإنّ نظرهم إنّما يكون ملغى في مقدار شمول دليل التنزيل، و أمّا في غيره يكون متبعا، و لا إشكال في أنّهم حاكمون في المرأة المسطورة بكونها ممّن ليس لها أيّام معلومة، فيحكم عليها بعد ذلك بحكم العمومات المتكفّلة لموضوع من ليس لها أيّام معلومة، مثل المرسلة فيكون مرجعها التميّز أو الروايات.

الفرع الرابع: لا إشكال في أنّه لو علّق الحكم في الدليل على عنوان واقعي، بدون أخذ العلم به في الموضوع لا طريقا و لا موضوعا

فكما في صورة إحراز هذا العنوان بالقطع يترتّب عليه حكمه، فكذا عند إحرازه بأمارة شرعية أو أصل شرعي، و حينئذ فعنوان تساوي الشهرين و اتّفاقهما، الذي وقع موضوعا في الدليل لحكم أخذ العادة و تحقّقها، و كذا عنوان انقطاع الدم لوقته من الشهر الأوّل، كما وقع في الدليل الآخر لو أحرز بالقطع لا إشكال في ترتب حكمه و هو ثبوت العادة الشرعية، و كذا يقوم مقام القطع به قيام أمارة شرعية عليه أو أصل شرعي، كما لو أحرز حيضية خمسة أيام من أوّل الشهر الأوّل، و كذا من الثاني بمساعدة قاعدة الإمكان، فإنّ تلك القاعدة سواء كان مبناها الغلبة أو أصالة الصحّة، تكون من جملة الأمارات

و لها الكاشفية عن الحيضية الواقعية، و معنى الأمارية أن يكون مع قطع النظر عن حكم الشرع في البين شي ء آخر، له غلبة المطابقة مع الواقع و الكاشفية عنه و كان حكم الشارع على طبقه، كما أنّ المراد بالأصل جعل الحكم في موضوع الشاك، مع عدم وجود كاشف غالبي في البين كان الحكم على طبقه،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 68

و إذن فالقاعدة و الصفات في موضع اعتبارها كالمستمرة تكونان من الأمارات، إذ لهما الكاشفية النوعية الغالبية عن الحيض الواقعي، ألا ترى تعبير الإمام في مقام اعتبار الصفات بقوله: «دم الحيض ليس به خفاء، هو دم حار، عبيط، يخرج بحرقة و دفع، و أسود يعرف» و ألا ترى مقالة بعض النسوان عقيب استماع هذا الكلام، فليس اعتبارها إلّا من أجل غلبة مطابقتها، و غلبة حكايتها عن الحيضية، و هذا بخلاف الأخذ بالروايات عند مرجعيتها، كما في فاقدة التميّز غير ذات العادة، فإنّ الحكم فيها ليس لأجل أمارية غالبية لشي ء، بل هو مجرّد تعبّد من الشرع مجعول في موضوع الامرأة الشاكة المتحيّرة، و لهذا قد عبّر الإمام في هذا المقام بقوله: «تحيضي في كل شهر في علم اللّٰه سبعة أو ستة» و ليس المراد بالتحيّض هو الحيض الواقعي، و إنّما هو التعبّد في الظاهر بأحكامه.

فإن قلت: قد ذكرت عدم الفرق بين إحراز موضوع الحكم، إذا كان نفس الواقع بدون مدخلية العلم كما في المقام، بالقطع و بالأمارة المعتبرة، و بين إحرازه بالأصل العملي، فكما لو علمت المرأة وجدانا بحيضية الدم في الخمسة الأولى من شهرين، صارت ذات عادة في الثالث، و كذا لو كانت الخمسة الأولى من الشهرين محكومة بالحيضية، بحكم قاعدة الإمكان و أماريتها يتحقّق

أيضا لها العادة في الثالث، و كذا لو استمر بها الدم و كانت غير معتادة فكان مرجعها التميّز، و كان التميّز مع الخمسة الأولى و بقيت على حالة الاستمرار إلى الشهر الثاني و فيه مع وجدان التميز في الخمسة الأولى، فإنّها لو بقيت على الاستمرار أشهرا عديدة بعد مضي الشهرين بالوصف المذكور، كان تكليفها الأخذ بالخمسة الأولى في كلّ من بقية الشهور، و إن كان على خلافها التميّز، فكذلك الحال في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 69

الأصل العملي، فلو كان قضية أصل حيضية الخمسة الأولى من الشهرين ترتب حكم الاعتياد بناء على ما ذكرت، فالأخذ بالروايات داخل في قسم الأصل، فلا وجه لمئونة الفرق بينه و بين القاعدة و الصفات بعد اتحاد الثمرة.

قلت: بل الثمرة ظاهرة، و هي أنّ مجرى الأمارة لو لم يكن بنفسه موضوعا للحكم، و كان له لازم عقلي كان هو الموضوع له، يحكم بعد جريانها بثبوت هذا اللازم ثمّ يترتب أثره، و هذا بخلاف الأصل فإنّه لا يفي بذلك لما حقّق في الأصول:

من عدم حجية الأصل المثبت و المقام من هذا القبيل، فانّ ما هو المجرى أوّلا و بالذات للأمارة أو الأصل، هو حيضية هذا اليوم و هذا و هذا إلى ستة أيام مثلا في كلّ من الشهرين، و ما هو موضوع لثبوت العادة الشرعية عنوان ثالث منتزع من هذا، و هو عنوان اتّفاق الشهرين و تساوي الدمين، فإنّ لازم حيضية هذا و هذا إلى خمسة أيّام في الشهر الأوّل، و كذا في الثاني عقلا هو الاتّفاق بين الشهرين و التساوي بين الدمين، فلهذا تكون القاعدة و الصفات معتبرتين في المقام، دون الروايات.

نعم لو فرض وجود أصل عملي كان مجراه

نفس عنوان الاتّفاق بدون واسطة كان جاريا و معتبرا، و لكن الظاهر أنّه لا أصل بهذا الوصف.

ثمّ ربّما يستبعد في أخذ العادة من التميّز: بأنّه يلزم فيما لو كان التميّز في غير الشهرين الأوّلين على خلاف هذه العادة، تقدّم العادة المأخوذة من التميّز على التميّز، و هو زيادة الفرع على الأصل، و لكنّه مجرّد استبعاد لا يعبأ به في مقابل ما تقدّم.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 70

مسألة [أن الصفرة و الكدرة في أيام الحيض حيض و في أيام الطهر طهر]

هنا قاعدتان كلّيتان مستفادتان من الأخبار:

الأوّل: انّ الصفرة و الكدرة في أيّام الحيض حيض.

و الأخرى: أنّهما في أيّام الطهر طهر.

و لا يخفى أنّ ظاهرها ثبوت العادة الطهرية كالحيضية، فلو حصل للمرأة كرارا عديدة يوجب التخلّق و الاعتياد العرفي، رؤية الحيض في خمسة في رأس الشهر، ثمّ البياض في خمسة و عشرين يوما، فهي عرفا امرأة تعرف أيّام حيضها و هي خمسة أيّام من أوّل كل شهر، و أيّام طهرها و هي خمسة و عشرون بعد تلك الخمسة.

فمقتضى القاعدتين في حقّ هذه المرأة، أنّها كلّما رأت صفرة أو كدرة في الخمسة الأولى تحكم بالحيضية، و كلّما رأتهما بعد الخمسة و في الخمسة و العشرين بعدها تحكم بكونهما استحاضة، لأنّها رأتهما في أيّام طهرها، فالقاعدة الأولى لا مخالفة فيها الشي ء، و أمّا الثانية فهي مخالفة لأمرين التزم بهما الكل أو الجل.

أحدهما: و هو المسلّم قطعا، أنّه لو رأت ذات العادة بعد انقضاء أيام عادتها، و مع فصل أقل الطهر دما و استمر إلى ثلاثة أيام، سواء كان أحمر أم أصفر، فهو حيض مستقل و ليس باستحاضة، فالحكم بالحيضية في هذا الدم بعد استقرار الثلاثة ليس محلا للكلام، و إن كان في أوّل رؤيته خلاف جار في المبتدئة، و القاعدة

في صورة اصفرار الدم ناطقة بعدم الحيضية حتى بعد استقرار الثلاثة.

و الثاني: انّ المرأة ذات العادة التي نقصت عادتها عن عشرة أيام، لو تعدّى الدم عن أيّام عادتها فهي تستظهر، و تحتاط باعمال عمل الحيض على اختلاف في مقدار أيّام الاستظهار حسب اختلاف الروايات، ثمّ بعد تلك الأيام إن بقي من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 71

العشرة شي ء فهي تعمل عمل المستحاضة، فإن تجاوز الدم عن العشرة انكشف كون جميع الدم المتجاوز عن العادة استحاضة، و إن انقطع على العشرة أو ما دونها، انكشف حيضية جميع المتجاوز عن أيّام العادة إلى العشرة أو ما دونها، و هذا كما ترى مخالف مع مقتضى القاعدة من وجهين:

الأوّل: من حيث الحكم بالاستظهار، فالمرأة المتقدمة في المثال المتقدّم، لو رأت بعد انقضاء الخمسة التي هي أيّام طمثها صفرة قبل انقضاء العشرة، فمقتضى القاعدة هو الحكم بالاستحاضية و الطهرية من أوّل الأمر. و مقتضى ما ذكر لزوم الانتظار و التربّص مدّة الاستظهار.

و الثاني: من حيث الحكم بحيضية الدم المتجاوز عن العادة، عند الانقطاع على العشرة أو ما دونها، كما لو رأت المرأة المفروضة بعد خمستها خمسة أخرى متصلة صفرة، ثمّ انقطع الصفرة على العاشر، فالخمسة الأخيرة بمقتضى القاعدة لكونها أيّام الطهر محكومة بالطهرية، و بمقتضى ما ذكر محكومة بالحيضية.

ثمّ ربّما توجه القاعدتان لأجل ارتفاع هذه المخالفات عن البين، و تفسّر أيّام الحيض بأيّام إمكانه، و أيّام الطهر بأيّام امتناع الحيض و وجوب الطهر، و معه لا إشكال في ارتفاع جميع المخالفات الثلاثة من البين كما هو واضح، و لكنّه حمل للفظ على خلاف ظاهره، فإنّ الظاهر من أيّام الحيض، و أيّام الطهر، هي الأيام التي اعتادت المرأة برؤية الدم

فيها أو لعدم رؤيته فيها و هو أيضا واضح، فإذن لا يمكن الجمع بين ظاهر القاعدتين مع ما ذكروه في المقامات الثلاثة. هذا.

و لكن الإنصاف أنّ من لاحظ الأخبار المذكورة في الوسائل، في باب أنّ الصفرة و الكدرة في أيّام الحيض حيض، و في أيّام الطهر طهر، و هي كما ذكره

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 72

شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- مستفيضة، لا يرتاب في أنّ المراد فيها بالصفرة و الكدرة في أيّام الطهر، ليس هو حدوث الصفرة في أيّام الطهر في أيّ موضع منها كان، بل المراد بقاء الدم الذي رأته المرأة في أيّام حيضها، و امتداده إلى ما بعد انقضاء أيّامها، و رؤية الصفرة أو الكدرة في هذه الأيام اللاحقة المتصلة بأيّام عادتها، فهذه الصفرة و الكدرة بخصوصهما هما المراد في تلك الأخبار بالصفرة و الكدرة في أيّام الطهر.

و لا يخفى أنه حينئذ يرتفع مخالفتها من الحيثية الأولى مع ما ذكروه: و هو الحكم بحيضية الدم أو الصفرة الحادثين بعد انقضاء العادة و فصل أقلّ الطهر، فإنّها على هذا ليست بمتعرّضة لحدوث الصفرة في أيّام الطهر، بل أيّام الطهر ظرف لنقائها، و لا لأيام الطهر المنفصلة عن العادة بأقل الطهر، بل لخصوص ما كان متصلا بها. و لا بأس بالتيمّن بذكر بعض هذه الأخبار مع الإشارة إلى وجه استظهار ذلك منها.

فنقول: منها صحيحة ابن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن المرأة ترى الصفرة في أيّامها، فقال: لا تصلّي حتى تنقضي أيّامها، و إن رأت الصفرة في غير أيّامها توضّأت و صلّت. «1»

فإنّ تعقيب قوله: «و إن رأت الصفرة» لقوله «حتى تنقضي أيامها» له ظهور في كونه في مقام بيان ما

بعد الانقضاء، يعني يكون الحال في الصفرة التي تراها المرأة ما دام عدم انقضاء عدد أيامها، هو البناء على حيضيتها، فهنا موضع استدراك لأنّ الحال فيها بعد انقضاء عدد هذه الأيام، لو رأتها بعدها ما ذا فحينئذ

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، باب 4، من أبواب الحيض، ص 540، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 73

تعرض الرواية لحكم هذه الصورة، و قال: «و إن رأت في غير أيامها» فالمراد ليس هو الغير المطلق، بل خصوص ما كان متصلا بأيام العادة ممّا يتوهم كون الدم المرئي فيه من الحيضة السابقة، و هذا كما ترى مختص بصورة تجاوز الدم عن أيام العادة بعد رؤيته فيها، و ليس صورة حدوث الصفرة في غير أيام العادة محلا لتعرض الرواية.

و منها: قوله- عليه السّلام- في مرسلة يونس القصيرة: و كلّ ما رأت المرأة في أيّام حيضها من صفرة أو حمرة فهو من الحيض. و كلّ ما رأته بعد أيام حيضها فليس من الحيض «1».

وجه الاستظهار في هذا ظهور كلمة «بعد» في البعدية المتّصلة، ألا ترى أنّه لو قيل أجيئك بعد المباحثة أو بعد الظهر، فظاهره هو الزمان المتصل بهما عرفا، و ظاهره أيضا بيان حكم ما إذا رأت الصفرة في أيام العادة، ثمّ رأتها في الأيام التي بعدها متصلا بها.

و أظهر من هذا رواية إسماعيل الجعفي عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- قال: إذا رأت المرأة الصفرة قبل انقضاء أيام عادتها لم تصل، و إن كانت صفرة بعد انقضاء أيام قرئها صلّت. «2»

و أظهر من الجميع المحكي عن قرب الإسناد، عن عبد اللّٰه بن الحسن، عن جدّه علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر- صلوات اللّٰه عليهما- قال:

«سألته عن

المرأة ترى الصفرة أيام طمثها كيف تصنع؟ قال: تترك لذلك الصلاة

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 4، من أبواب الحيض، ص 540، ح 3.

(2)- المصدر نفسه: ص 540، ح 4.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 74

بعدد أيامها التي كانت تقعد في طمثها، ثمّ تغتسل و تصلّي. فإن رأت صفرة بعد غسلها فلا غسل عليها، يجزيها الوضوء عند كل صلاة و تصلّي» «1».

و هذه الأخبار يفسّر بعضها بعضا فإنّ الظاهر اتحاد السياق في الجميع، فلو فرض إجمال في بعضها فالأخير شارح له و رافع لإجماله، و على هذا فهذه الأخبار متحدة السياق مع عدّة أخبار أخر، تدل على لزوم الاغتسال عقيب انقضاء العادة بلا فصل.

مثل رواية يونس الطويلة الصريحة في المستحاضة المعتادة لا وقت لها إلّا أيّامها.

و قوله- عليه السّلام- في آخر المرسلةُ: «تعمل عليه و تدع ما سواه، و يكون سنتها فيما تستقبل إن استحاضت».

و قوله- عليه السّلام- في المضطربة المأمورة بالتحيّض سبعا «ألا ترى أنّ أيّامها لو كانت أقل من سبع لما قال لها تحيّضي سبعا، فيكون قد أمرها بترك الصلاة أياما و هي مستحاضة» فإنّ المستفاد منه أنّ الشارع لم يكن ليأمر بترك الصلاة بعد العادة.

و مثل صحيحة معاوية بن عمار: «المستحاضة تنظر أيّامها فلا تصلّي فيها، و لا يقربها بعلها، و إذا جازت أيامها و رأت الدم يثقب الكرسف اغتسلت للظهر و العصر». «2»

و موثقة ابن سنان في المرأة المستحاضة التي لا تظهر، قال: تغتسل عند صلاة

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 4، من أبواب الحيض، ص 541، ح 7.

(2)- المصدر نفسه: ص 542، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 75

الظهر و تصلّي- إلى أن قال:- لا بأس يأتيها بعلها إذا

شاء إلّا أيّام حيضها. «1».

و موثقة سماعة: المستحاضة تصوم شهر رمضان إلّا الأيام التي كانت تحيض فيها. «2»

و رواية ابن أبي يعفور: المستحاضة إذا مضت أيام قرئها اغتسلت و احتشت. «3»

و رواية مالك بن أعين: عن المستحاضة، كيف يغشاها زوجها؟ قال:

«تنتظر الأيام التي كانت تحيض فيها، و حيضها مستقيمة فلا يقربها في عدّة تلك الأيام». «4»

و صحيحة زرارة عن أحدهما- عليه السّلام- قال: «النفساء تكفّ عن الصلاة أيامها التي كانت تمكث فيها، ثمّ تغتسل و تعمل كما تعمل المستحاضة». «5»

و ذيل مرسلة داود بن أبي المغراء المتقدمة عمّن أخبره، عن أبي عبد اللّٰه- عليه السّلام- و قد تقدّمت في مسألة أقل الطهر، قال: قلت: امرأة يكون حيضها سبعة أيام أو ثمانية أيام حيضها دائم مستقيم، ثمّ تحيض ثلاثة أيام ثم ينقطع عنها الدم، و ترى البياض لا صفرة و لا دما، قال: «تغتسل و تصلّي» قلت: تغتسل و تصلّي و تصوم ثم يعود الدم، فقال: «إذا رأت الدم أمسكت عن الصلاة و الصيام» قلت: فإنّها ترى الدم يوما و تطهر يوما، فقال: «إذا رأت الدم أمسكت و إذا رأت الطهر

______________________________

(1)- الوسائل: ب 1 من أبواب الاستحاضة، ص 605، ح 4.

(2)- المصدر نفسه: ب 2 من أبواب الاستحاضة، ص 609، ح 1.

(3)- المصدر نفسه: ب 1 من أبواب الاستحاضة، ص 608، ح 13.

(4)- المصدر نفسه: ب 3 من أبواب الاستحاضة، ص 609، ح 1.

(5)- المصدر نفسه: ب 3 من أبواب النّفاس، ص 611، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 76

صلّت، فإذا مضت أيام حيضها و استمر بها الطهر صلّت، فإذا رأت الدم فهي مستحاضة».

ثمّ مجموع هذه الأخبار بكلتا طائفتيها- و هي كما ترى تكون

في الكثرة بحدّ يوجب القطع بمضمونها، و هي الاغتسال عقيب العادة بلا مهلة، و لو مع رؤية الدم لها- معارضة مع شيئين:

الأوّل: قاعدة الإمكان في ما إذا انقطع الدم على العشرة فما دون، فانّ الحكم بحيضيّة الجميع إنّما هو بتلك القاعدة و لا مدرك له سواها.

و أمّا روايتا ابن مسلم «ما كان قبل العشرة فهو من الحيضة الأولى، و ما كان بعدها فهو من الحيضة المستقلة» قد عرفت في ما تقدّم ظهورهما في عشرة الطهر، و دلالتهما على هذا المطلوب موقوف على حملها على عشرة الحيض.

و أمّا أخبار حيضية الدم ما لم يتجاوز العشرة فهي واردة في المبتدئة، فانحصر المدرك في القاعدة و لا يخفى المعارضة بينها مع تلك الأخبار، فإنّ مقتضى القاعدة هو حيضية ما تجاوز عن العادة لدى الانقطاع على العشرة، و مقتضى الطائفة الأولى من تلك الأخبار هو كونه استحاضة.

و الثاني: أخبار الاستظهار البالغة حدّ التواتر المعنوي، فلاحظ بابها في الوسائل، و المراد بالاستظهار كما في بعضها، و الاحتياط كما في البعض الآخر ليس هو الاحتياط الدائر في ألسنة الفقهاء، حيث يريدون به الجمع بين تروك الحائض و أعمال المستحاضة، بل المراد كما يشهد به ملاحظة جملة من تلك الأخبار، هو ترك العبادة مع سائر تروك الحائض، و بعبارة أخرى: التلبّس بوظائف الحائض،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 77

و حينئذ تكون منافاتها مع الأخبار المتقدّمة، من حيث إنّ هذه الأخبار حاكمة بتأخير غسل الحيض عن أيام الاستظهار. و تلك الأخبار بأسرها دالّة على لزوم تلك الأعمال عقيب انقضاء العادة بلا فصل.

إذا عرفت وجه التعارض من الجهتين، فوجه دفعه من الجهة الأولى مع قاعدة الإمكان، أمّا في أكثر الطائفة الثانية فواضح، لأنّ موضوعها

المستمرة و لا مجرى لقاعدة الإمكان مع الاستمرار للمعارضة بالمثل.

و أمّا في بعض هذه الطائفة ممّا يكون موضوعه أعم، و جميع الطائفة الأولى أعني أخبار الصفرة، فقد يقال بأنّ المراد من أيام الحيض: هي الأيام التي تكون للمرأة فيها أمارة شرعية على الحيض، فعلى هذا لا تنافي بين الحكم على الإطلاق بأنّ الدم في غير أيام الحيض استحاضة، و بين التفصيل بين التجاوز عن العشرة و عدمه، و الحكم في الثاني بكون الدم مع كونه في غير أيام العادة حيضا، فإنّه و إن كان في غير أيام العادة، إلّا أنّه يكون في أيام الحيض بذاك المعنى، يعني قد رئي في أيام يكون الدم فيها بحكم الأمارة الشرعية، و هي قاعدة الإمكان حيضا، فيصير محصل المراد من تلك الأخبار، أنّ كل دم صادف مع الأمارة على الحيضية فهو حيض، و كل دم لم يصادف معها فهو استحاضة.

فحينئذ يقال أمّا التي ينقطع دمها على العشرة فما دون، فجميع ما رأته من الدم سواء في العادة أم بعدها في جملة العشرة حيض، لأنّه في أيام العادة صادف مع العادة، و في غيرها مع قاعدة الإمكان. و أمّا التي يتجاوز دمها عن العشرة، فالمصادف للأمارة في حقّها ليس إلّا خصوص ما رأته في العادة، فإنّ قاعدة الإمكان ملغاة في حقّها، و إنّما الأمارة الشرعية في حقّها متمحّضة في الأيام التي

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 78

صارت لها خلقا معروفا ليس إلّا، بدليل المرسلة الطويلة فيرتفع التنافي بين تلك الأخبار مع القاعدة أصلا كما هو واضح.

و فيه أنّ هذا الحمل مع إمكان دعوى كونه حملا على خلاف الظاهر، فإنّ الظاهر من أيام الحيض هي أيام العادة، يدفعه التصريح في

بعض تلك الأخبار بأيام العادة، و أنّها تعدّها و تحكم بالحيضية بعددها، و بالاستحاضة بعد تمام عددها، و هذا غير قابل لهذا التوجيه كما هو ظاهر.

فالتحقيق أن يقال: بما أنّ المدرك لنفس هذه القاعدة، ليس هو الدليل اللفظي و ينحصر في اللبي، فالأمر في مورد تعارضها مع الأخبار سهل، فيمكن رفع اليد عن القاعدة في خصوص مورد الأخبار: بأن يقال: بأنّ المتجاوز عن العادة الغير المتجاوز عن العشرة ليس بحيض، و إنّما هو استحاضة.

لكن الكلام في اجتماع هذا الحكم مع أخبار الاستظهار الدالّة على وجوب التحيّض، بعد تجاوز العادة بمقدار يوم أو يومين، أو ثلاثة أو إلى العشرة.

فقد يتوهّم أنّهما من قبيل المطلق و المقيّد، بمعنى أنّ الطائفة الأولى تدل على أنّه يجب الحكم بعد تجاوز العادة بالاستحاضة، سواء كان الدم متصلا بالعادة أم بعدها بفاصلة يوم أو يومين أو ثلاثة. و مفاد الثانية أنّه يجب هذا الحكم في خصوص ما تراه المرأة بعد العادة بفاصلة يوم أو يومين، و لكنّه بمعزل عن التحقيق، فإنّه ليس مساقهما مساق الإطلاق و التقييد، بل هما من باب المتباينين، و هما نظير قول القائل أوّل زمان مجيئي إياك أوّل الظهر، و قوله الآخر: أوّل زمان المجي ء بعد انقضاء ساعة من الظهر، فإنّه حيث يكونان في مقام التحديد يرى بينهما التباين، و مثل قول الشارع: أوّل وقت صلاة المغرب استتار القرص، و قوله

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 79

أوّل وقتها ذهاب الحمرة فكذا هنا أيضا، مفاد الطائفة الأولى أنّ أوّل وقت الحكم بالاستحاضة ما بعد العادة، متصلا بها. و مقتضى الثانية أنّه بعدها بفاصلة يوم أو يومين، و من الواضح التنافي بينهما على وجه التباين.

و ربما يتوهّم الجمع

بحمل أخبار الاستظهار على الاستحباب، يعني يستحب للمرأة إذا رأت الدم بعد عادتها أن تتحيّض إلى يوم أو يومين، مع جواز أن تبني على كون الدم استحاضة من أوّل التجاوز عن العادة، و هذا مختار أكثر المتأخّرين، بل ربّما ينسب إلى عامتهم، و على هذا فتكون الأوامر الواقعة بصيغة الإخبار في الطائفة الأولى، من قبيل قوله: «و إذا رأت الصفرة بعد أيّام عادتها اغتسلت و صلّت» محمولة على مجرّد الجواز، لكونها واقعة عقيب الحظر، لمسبوقيتها بأيام العادة الموجود فيها النهي عن العبادة.

و لكن الإنصاف أنّه أيضا لا يستقيم في بعض أخبار الطائفة الأولى، فإنّ بعضها بهذه العبارة: «الصفرة بعد أيّام الحيض ليس من الحيض» أو أنّه «إذا رأت الدم بعد أيام حيضها فهي مستحاضة» ممّا يكون بصدد بيان الواقع، و أنّ الدم بحسب نفس الأمر استحاضة، و معلوم أنّ مفاد هذا وجوب العبادة و أعمال الاستحاضة و عدم تجويز تركها، مع أنّه إذا أغمض عن هذا أيضا فما الموجب لحمل أخبار الاستظهار على الاستحباب، و الأخبار الأخر على الجواز المرجوح، فإنّه يمكن العكس أيضا، فيقال: إنّ مفاد الأخبار الأخر، إنية إذا رأت المرأة الدم بعد عادتها، فيستحب لها أن تأتي بالعبادة و أعمال المستحاضة. و مفاد أخبار الاستظهار ثبوت الرخصة لها في ترك العبادة، مع ترك محرّمات الحائض، و إذا دار الأمر بين هذا و بين ما ذكروه، فلا مرجح لما ذكروه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 80

و هنا جمع آخر استقر به شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- في طهارته: و هو أن تحمل أخبار الاستظهار على ظاهرها من الوجوب، و لكن يقال: إنّه ليس المراد بالاستظهار إلّا طلب ظهور الحال، و لا معنى لطلب ظهور

الحال إلّا بالنسبة إلى المرأة التي رجت الانقطاع لدون العشرة، و أمّا الآئسة عن الانقطاع و القاطعة بالتجاوز عن العشرة، فلا استظهار في حقّها و لا احتياط و لا انتظار، كما وقع التعبير بهذين أيضا في بعض أخبار الاستظهار، و بالجملة فمورد أخبار الاستظهار خصوص المرأة التي يكون لها رجاء انقطاع الدم على العشرة و ما دونها، و على هذا أيضا ينزّل اختلاف الأخبار في تعيين مدة الاستظهار، فإنّه ربّما يحصل تبيّن الحال و اليأس عن الانقطاع بانتظار يوم واحد، و ربّما يحصل بيومين و قد يحتاج إلى الصبر ثلاثة، و قد يحتاج إلى انتظار العشرة.

و مورد الأخبار الأخر خصوص المرأة الآئسة عن الانقطاع، و العالمة ببقاء الدم إلى ما بعد العشرة فلا استظهار مشروعا في حقّها، بل تبني على سبيل الوجوب من أوّل الأمر على الاستحاضة، و الشاهد على هذا الجمع رواية إسحاق بن جرير المذكورة في أخبار الاستظهار المفصّلة بين هاتين الصورتين، فإنّه سأل فيها عن المرأة تحيض فتجوز أيام حيضها، قال: إن كان أيام حيضها دون عشرة أيام استظهرت بيوم واحد ثمّ هي مستحاضة، قال: «فانّ الدم يستمر بها الشهر و الشهرين و الثلاثة كيف تصنع بالصلاة؟ قال: «تجلس أيام حيضها و تغتسل لكل صلاتين» «1» فإنّ المرأة التي استمر بها الدم بهذه المدة الطويلة، يحصل لها اليأس عن انقطاع الدم لدون العشرة، فيكون مورد الأخبار الأخر هذه المستمرة و صاحبة

______________________________

(1)- الوسائل: ج 2، ب 13 من أبواب الحيض، ص 556، ح 3.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 81

العادة المستقيمة، التي لا يتخلّف الدم عن عادتها حتى بشي ء يسير كرات عديدة، فإنّها أيضا لو اتفق تجاوز الدم عن عادتها يحصل لها

اليقين بأنّ هذا الدم استحاضة و يستمر إلى ما بعد العشرة، و الإنصاف أنّ هذا الحمل حمل بعيد لا يمكن المصير إليه.

أمّا أوّلا فلأنّ فرض يأس المرأة عن انقطاع الدم لدون العشرة فرض بعيد لا يمكن حمل مثل إطلاق قوله: «و كلّ ما رأته بعد أيام حيضها فليس من الحيض» عليه، فإنّه حمل للمطلق على الفرد النادر.

و أمّا ثانيا فلأنّ مجرد كون المرأة ذات عادة مستقيمة لا تتخلّف، لا يوجب حصول العلم لها بتجاوز الدم عن العشرة.

نعم يمكن دعوى أنّه يوجب العلم بأنّه نشأ من مرض و علّة حدثت في الباطن.

و أمّا ثالثا: فمجرّد كون الحمل على معنى قريبا بالاعتبار، لا يوجب حمل اللفظ عليه ما لم يكن عليه في الكلام شاهد، و ليس هنا شاهد في الكلام، بل هو في كلا الطرفين آب عن هذا الحمل، إذ لو كان المراد هو التفصيل على النهج المذكور أمكن تغيير التعبير، و أنّه مع الرجاء يكون الحكم كذا و مع اليأس كذا.

و أمّا رابعا: فلأنّه- قدّس سرّه- معترف بعدم جريان هذا الحمل في خصوص صنف خاص من الأخبار الأخر، و هي الدالة على أنّ الصفرة في غير أيام الحيض ليس من الحيض، و التزم فيها بأنّ أيّام الاستظهار داخلة في أيام الحيض تنزيلا، و لا يخفى أنّه مع هذا الالتزام لا يبقى حاجة إلى الحمل المذكور، كما يأتي أنّه بنفسه جمع مستقل.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 82

و قد يجمع بحمل أخبار الاستظهار على ما إذا رأت بعد العادة الدم الجامع للصفات، و حمل الأخبار الأخر على ما إذا رأت الصفرة. و فيه أنّ في كلتا الطائفتين ذكرا لكلا القسمين، فذكر الدم الرقيق الذي هو الصفرة في

أخبار الاستظهار، و ذكر الدم و الحمرة في الأخبار الأخر فلا حظ.

و قد يجمع بجعل أخبار الاستظهار في مقام التنزيل الموضوعي، فيكون لها الحكومة على الأخبار الأخر: بمعنى أنّ مفاد الثانية أنّ كلّ ما رأت المرأة في غير أيام حيضها فهو استحاضة، و مفاد الأولى أنّ اليوم و اليومين عقيب العادة أيضا يكون في نظر الشارع من جملة أيام الحيض. و لكنّه أيضا خلاف ظاهر أخبار الاستظهار، فإنّه لا يخفى على من لاحظها أنّه ليس لها لسان التنزيل الموضوعي، فإنّه ذكر فيها أيام الاستظهار في قبال أيام الحيض، فلسانها هكذا: إذا رأت بعد أيام حيضها دما استظهرت، و هذا ظاهر أنّه ليس من باب التصرّف في الموضوع أصلا.

و ربّما يجمع بحمل أخبار الاستظهار على غير المستمرّة، أو المستمرّة في خصوص دورتها الأولى. و حمل الأخبار الأخر على المستمرة في الدورة الثانية فما زاد، و هذا أيضا حمل بعيد، فإنّه ليس في الأخبار الدالّة على أنّ الصفرة في غير أيام الحيض ليس من الحيض، دلالة و لا اشعار على هذا القيد أصلا، بل الموضوع فيها مطلق المرأة. هذه أنحاء ما قيل أو يقال لتصوير الجمع العرفي بين أخبار المسألة.

و قد عرفت عدم تمامية شي ء منها، و بعد انقطاع اليد عن الجمع العرفي، فليس المقام مقام الرجوع إلى المرجّحات السندية، فإنّ المفروض أنّ الأخبار في كلا الطرفين بالغة حدّ التواتر و القطع بالصدور، فلا إشكال في أصل الصدور، و أمّا جهة الصدور فهي أيضا متساوية فيهما إذ كل منهما متوافق مع رأي العامة. فإنّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 83

أخبار الاستظهار موافق مع «مالك» الذي هو أحد أئمّتهم الأربعة و غيرها مع غيره.

و إذن فأظن أنّه

لا محيص عن القول بالتخيير في الأخذ بإحدى الطائفتين، و طرح الأخرى على الخلاف المقرّر في محلّه: من ثبوت هذا التخيير للمجتهد أو للمقلّد، بمعنى أنّ المجتهد يختار أحد الخبرين ثمّ يفتي بمضمونه معيّنا، أو أنّه يلقي التخيير إلى المقلّد و يوكل الاختيار إليه، فهو يختار أيّهما شاء، و هل هذا التخيير بدوي أو استمراري على كل من الوجهين؟ هو أيضا محل للخلاف المقرّر في محلّه. فإن أخذ بأخبار الاغتسال بعد العادة وجب على المرأة البناء على وظائف المستحاضة، و إن طرح هذه و أخذ بأخبار الاستظهار وجب التحيّض و الاحتياط في يوم واحد على سبيل القدر المتيقّن.

ثمّ تكون المرأة مخيّرة بين الأخذ بالمدة الأقل و الأكثر، و حيث لا معنى للتخيير بين الأقل و الأكثر لرجوعه إلى التخيير بين الفعل و الترك، فإنّ معناه: أنّه يجب على المكلّف على نحو التخيير إمّا فعل الزائد و إمّا تركه، و هذا راجع إلى الإباحة دون العبادة، فلهذا يجعل متعلّق التخيير بناء المكلّف نظير ما يقال في التخيير بين الخبرين المتعارضين، فيقال: إنّ المرأة مختارة في التحيّض و البناء على الحيضية في يوم واحد، و بين التحيّض و البناء عليها في يومين و هكذا، فليس التخيير في العمل الخارجي، بل في العمل القلبي و هو البناء، نظير ما يقال في الخبرين المتعارضين إذا دلّ أحدهما على الوجوب و الآخر على التحريم، فإنّ مجرّد العمل الخارجي لا يكفي في الأخذ، و إلّا لزم كون المكلّف أبدا آخذا بأحدهما لعدم خلوّه من الفعل و الترك، و نظير التقليد في ما إذا كان المجتهدان متساويين في جميع الجهات، فإنّه حينئذ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 84

يجب البناء القلبي على

متابعة أحدهما، بخلاف ما لو كان أحدهما أعلم فإنّ متابعته في الواقع كافية.

و على هذا يخرج من باب الأقل و الأكثر، و يكون من باب التخيير بين المتباينين لتباين البنائين، أعني: البناء على حيضيّة العدد الأقل و البناء على حيضيّة العدد الأكثر، كما هو أوضح من أن يخفى.

مسألة: لو رأت الدم ثلاثة أيام متواليات، ثمّ رأت النقاء أقل من عشرة، ثمّ رأت الدم ثانيا، و كان مجموع الدمين مع النقاء بينهما زائدا على العشرة فله صور:

الأولى: أن يكون كلا الدمين جامعا لصفات الحيض.

و الثانية: أن يكون كلاهما فاقدا لها.

و الثالثة: أن يكون الأوّل واجدا و الثاني فاقدا.

و الرابعة: بالعكس.

و على كل التقادير إمّا أن يكون تمام أحد الدمين، أو بعضه، أو بعض كل منهما متفقا في العادة، أو لا: بأن لا يكون شي ء من أحدهما واقعا فيها. هذه صور المسألة.

و قد حكم شيخ الجواهر في رسالة نجاة العباد في جميعها بحيضية الدم الأوّل دون الثاني، بمعنى أنّه استحاضة و النقاء في البين طهر. و علّق في هذا المقام شيخنا المرتضى بأنّه إذا كان ذلك بحكم العادة صحيح، و إذا كان بمجرّد الإمكان أو الصفات ففيه إشكال. و وافق معه الميرزا الشيرازي- قدّس سرّهما-، و الميرزا محمّد تقي الشيرازي- دام ظلّه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 85

فنقول: نظر شيخ الجواهر- أعلى اللّٰه مقامه- في الحكم بحيضية الأوّل مطلقا، و استحاضية الثاني كذلك، إلى أسبقيته من الثاني في الزمان، فحكم الحيضية سواء كان بالعادة، أم بالصفات، أم بقاعدة الإمكان يجري فيه، و لا يجري في الدم الثاني: أمّا جريانه في الأوّل فلأنّه في ظرف زمان وجود الدم الأوّل لم يكن له معارض أصلا، فإنّ المعارض هو الحكم في الثاني و هو منتف بانتفاء موضوعه. و أمّا عدم الجريان في الثاني: فلأنّه بعد الحكم بحيضية الدم الأوّل فالثاني ممّا يمتنع أن يكون حيضا، لعدم فصل

أقل الطهر أو الزيادة على العشرة. و نظر المحشّين في صورة انحصار منشأ الحكم بالحيضية في كلا الدمين، إمّا في الصفات، و إمّا في قاعدة الإمكان إلى أنّ قاعدة الصفة، أو الإمكان المفروض تساويهما بالنسبة إلى كلا الدمين، لأنّ المفروض أنّ كلا من الدمين واجد للصفة، و متّصف بالإمكان في حدّ ذاته، فإذا لم يمكن إجراء القاعدة في كليهما و امتنع الجمع، فلا مرجّح لإجرائها في أحدهما دون الآخر، لأنّ المفروض أنّ إجرائها في كل من الدمين رافع لموضوعها في الدم الآخر: بمعنى أنه كما أنّ إجراءها قاعدة الإمكان في الدم الأوّل، يخرج الدم الثاني عن هذه القاعدة إخراجا موضوعيا و من باب التخصّص، و كذا في قاعدة الصفات، فإنّ موضوع القاعدة الأولى ممكن الحيضية، و الثانية محتمل الحيضية، و بعد جريان إحدى القاعدتين في الدم الأوّل، يخرج الدم الثاني عن هذين العنوانين، إذ يصير ممتنع الحيضية و غير محتمل الحيضية، فكذلك الحال في العكس بعينه بلا فرق، فإنّ إجراء إحداهما في الدم الثاني موجب لخروج الدم الأوّل عن تحت القاعدة بالخروج الموضوعي و على نحو التخصّص لعين البيان لأنّ حيضية كل من الدمين يكون من أثرها الشرعي امتناع حيضية الآخر.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 86

فإن قلت: نعم، و لكن الدم الأوّل حين وجوده لم يكن له معارض، و بعد حصول معارضه خرج عن المبتلائية للمكلّف، و لازم ذلك أن تكون أصالة الطهارة في كل منهما جاريا لمسبوقيتهما بالطهر، فيلزم الحكم بعدم حيضية شي ء منهما.

و أمّا الترجيح بالسبق الزماني فهو فاسد: و وجه فساده أنّ الحاكم إنّما يعلّق الحكم بالموضوع في لحاظه، و لا يخفى أنّه لا تقدّم و لا تأخّر في عالم لحاظه

بين المتقدم الزماني و المتأخّر الزماني، بل هما ملحوظان معا في عرض واحد، فإذا لم يمكن شمول العموم لكلا الفردين فترجيحه أحدهما بإدخاله في العموم دون الآخر ترجيح بلا مرجّح. و إذن فيتحصّل عدم إمكان إجراء القاعدة في شي ء من الدمين.

نعم لا يمكن بعد ذلك الحكم بالطهارة في الجميع، و الرجوع بعد تساقط الفردين من القاعدة بالمعارضة، إلى أصالة الطهر الجارية في كل منهما لمسبوقيته بالطهر، لأنّ العلم الإجمالي حاصل بحيضية أحدهما، فإنّ القاعدتين مأخوذتان في حكم ثالث منتزع من مجموعهما، و هو عدم كون كلا الدمين طهرا، و إذن فتقع المعارضة بين الأصلين المذكورين أيضا، مثل القاعدتين و يجري فيهما الكلام فيهما.

لا يقال: حين وجود الأوّل كان الثاني معدوما، و حين وجود الثاني صار الأوّل معدوما، ففي كل حال يكون أحدهما خارجا عن محل الابتلاء، و العلم الإجمالي أيضا حاصل بعد الخروج، فإنّه إنّما يحصل بعد رؤية الدم الثاني بعد إجراء قاعدة الإمكان في الأوّل بحسب الظاهر، ثمّ انكشف بطلانه و كونه مجرى للأصل، و لكن هذا الأصل في الزمان المتأخّر ليس له أثر حتى يعارض الأصل الجاري في الدم الثاني، فهذا نظير خروج أحد الإناءين عن محل الابتلاء قبل العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما، فإنّه لا مانع من إجراء الأصل في الآخر، ثمّ بعد استعمال الثاني لو دخل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 87

الأوّل في محل الابتلاء، فلا مانع من إجرائه فيه أيضا.

لأنّا نقول: هذا قياس مع الفارق. لأنّ إجراء أصالة الطهر في زمان رؤية الدم الثاني بالنسبة إلى الأوّل لها أثر شرعي، و هو قضاء الصلوات المتروكة في أيام الدم الأوّل، و لا يمكن إجراء القاعدة و لا الأصل في جميع الدمين،

و لا في واحد منهما فلا محيص عن الاحتياط بالجمع بين تروك الحائض و أفعال المستحاضة في كلا الدمين. نعم لا إشكال في طهرية النقاء المتخلّل.

هذا حاصل تأييد مرام المحشّين. و لكنّه بعد محل إشكال و نظر، و وجهه أنّ شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- ذكر في الرسائل في باب التعادل و التراجيح، وجوها لتقديم الأصل في الشك السببي على الأصل في المسببي، و أحدها مبني على القول بعدم حجية الأصل المثبت، و عدم القول بحجية الاستصحاب من باب الأمارة، و هو خال عن الإشكال، لأنّ تقريبه: أنّ إجراء الأصل في السبب، حيث إنّ من آثاره جريان الحكم في المسبّب يكون رافعا لموضوع الشك المسببي، و مخرجا له عن موضوع الأصل و على وجه التخصّص بخلاف الأصل في المسبّب، فإنّه حيث ليس من آثاره بيان الحكم في السبب، فالشك فيه باق بحاله موضوعا فلا محيص عن الإخراج الحكمي، و التخصيص في جانب السبب، مثلا لو غسل الثوب المتنجّس بالماء المشكوك الطهارة و النجاسة، فمقتضى الاستصحاب في الماء الطهارة، و من آثارها الحكم بطهارة الثوب المغسول به، و أمّا استصحاب النجاسة في الثوب فليس من آثارها الحكم بنجاسة الماء، نعم هما متلازمان.

مسألة: لو رأت المرأة دمين لم يفصل بينهما أقل الطهر، و كان كل منهما في حدّ ذاته قابلا لأن يكون حيضا

كما لو رأت ثلاثة، ثمّ رأت دما آخر في الحادي

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 88

عشر، و الثاني عشر، و الثالث عشر، من ابتداء الدم الأوّل، فحكم شيخ الجواهر في رسالته العملية بحيضيّة الأوّل، و كون الثاني استحاضة، و عبارته صريحة في الإطلاق بالنسبة إلى صورة كون الأوّل فاقدا، و الثاني جامعا لصفات الحيض، و ظاهره في الإطلاق من حيث كون الثاني في العادة و عدمه، و استشكل شيخنا المرتضى في حاشيته في إطلاق

الحكم.

أقول: نظر شيخ الجواهر- قدّس سرّه- ليس إلّا إلى أسبقية الدم الأوّل زمانا، فإذا جرى فيه قاعدة الإمكان و ليس فه في هذا الزمان معارض، ثمّ بعد ذلك يمتنع كون الدم الثاني حيضا، فيكون الإمكان في الأوّل واردا على الإمكان أو الصفات أو العادة في الثاني، و هذا محل الإشكال أي إذا علمنا بأنّ فردين من عام يجب تخصيصه بأحدهما، و لا يمكن جمعهما في حكم العام، فإذا كان أحدهما أسبق زمانا فكون مجرّد سبق أحدهما زمانا، مرجحا له في الحكم، و تعيّن التخصيص في الآخر محل إشكال، بل التحقيق أنّه لا أثر للسبق الزماني أصلا، و ذلك لأنّ المعتبر في هذا الباب عالم لحاظ الحاكم و المتكلّم، و اشكال أنّ المتكلّم إذا قال: كل دم وجد في الخارج، و أمكن أن يكون حيضا [فهو حيض] يكون الفرد المتقدّم زمانا لهذا العنوان، مع الفرد المتأخّر ملحوظين في لحاظه، و انطباق هذا العنوان عليهما في عرض واحد، فهو لو خصّص أحدهما بالحكم كان ترجيحا بلا مرجح.

و الحاصل جميع الأفراد المندرجة في الزمان موجودة في عالم اللحاظ في عرض واحد، ألا ترى لو قال: أكرم العلماء و كان مبغوضا له الجمع بين إكرام فردين، كان أحدهما أقدم من الآخر بسنين كثيرة فلا يوجب مجرّد ذلك مرجحيته في نظر هذا المتكلّم، بل لا بدّ من إجمال العام في كليهما، ففي المقام أيضا قد علم بأنّ العام

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 89

و هو قوله: «كلّ ما أمكن إلخ» لا يمكن الجمع في حكمه بين هذا الدم و الدم الآخر المرئي بعد انقضاء أيام أخر، فلا محيص عن إجماله و سقوطه عن الحجية في كلا الطرفين.

لا يقال: فعلى

هذا لو علم إجمالا بأنّ واحدا من الأمارة القائمة في الزمان المتأخّر، و من القائمة من تلك السنخ قبلها بسنين عديدة مخالفة للواقع، و أنّه ليسا معا مرادين تحت عموم حجية سنخ هذه الأمارة، مثل قوله: «صدق العادل» يلزم أن يرفع اليد عن كلتا الأمارتين مع فرض فصل سنين كثيرة بينهما.

لأنّا نقول: لا بدّ لدفع هذا من ذكر مطلب أجنبي بالمقام: و هو أنّه فرق بين الأصل و الأمارة في صورة العلم الإجمالي بمخالفة الواقع، فلو علم إجمالا بمخالفة أحد الأصلين للواقع، فلا يوجب سقوط الأصلين مطلقا، بل في خصوص ما إذا كان العلم الإجمالي متعلّقا بالتكليف، كما لو علم بأنّ أحد الإناءين نجس، و كان الأصل في كليهما هو الطهارة، و أمّا لو كان العلم متعلّقا بنفي التكليف فحينئذ الأصلان جاريان، كما لو علم بطهارة أحد الإناءين و كان الأصل فيهما هو النجاسة، و وجه ذلك أنّه في الأوّل يلزم المخالفة القطعية من إجراء الأصلين معا و لا يلزم في الثاني كما هو ظاهر.

و أمّا الأمارة: فلو علم إجمالا بمخالفة أحد فرديها للواقع، فهي بالنسبة إلى كلا الموردين تسقط عن الحجية مطلقا، سواء كان العلم متعلّقا بالتكليف أم بنفيه، مثلا لو علمنا بعد ورود أكرم العلماء بخروج أحد فردين معينين عن هذا الحكم، بمعنى مجرّد عدم كونه لازم الإكرام لا بمعنى كونه محرّم الإكرام، فأصالة العموم بالنسبة إلى كليهما ساقطة عن الحجية، و لكن يستثنى من هذه الكلية في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 90

طرف الأمارة مورد، و هو ما إذا علم بمخالفة إحدى الأمارتين و كان إحديهما موردا للابتلاء و الأخرى غير مورد له، بل كانت أجنبية عن المكلّف رأسا، فهذا العلم

مطلقا لا يورث سقوط الأمارة المبتلى بها عن الحجية، مثل ما لو علم العبد بعد قول المولى: أكرم العلماء، بأنّ زيدا العالم إمّا خارج عن هذا العام، أو خارج عن عموم أكرم العلماء الذي قاله هندي لعبده، فهل يرى أحد من وجدانه صيرورة العام بمجرّد ذلك مجملا.

إذا عرفت ذلك فنقول: ما ذكرت من مثال الأمارتين المفصولتين بالأزمنة المتطاولة، إذا علم بمخالفة إحديهما للواقع يعتبر فيهما ما ذكرنا من الميزان، فربّما لا يحصل الإجمال لأجل أنّ الطرف خارج عن مورد الابتلاء، كما لو علمنا بأنّ العام الوارد في حقّنا إمّا هو مخصّص بالمورد الفلاني، و إمّا العام الوارد في حقّ حاضري مجلس الخطاب، مثل سلمان، و أبي ذر، و المقداد و أمثالهم- رضوان اللّٰه عليهم-، فلا إشكال انّ العام لا يصير بمجرّد ذلك مجملا.

و الحاصل أنّ ما ذكرنا من أنّ الأمارتين المختلفتين زمانا بالسبق و اللحوق، إذا علم بمخالفة إحديهما للواقع، فلا محيص عن إجمال كلتيهما و سقوطهما معا عن الحجية، إنّما هو في صورة كونهما معا محلا للابتلاء، و لا إشكال أنّ مسألتنا من هذا القبيل، فإنّ قاعدة الإمكان لو كانت جارية في الدم الأوّل، وجب أعمال المستحاضة في الثاني، و إن كانت جارية في الثاني وجب قضاء الصلوات الماضية في زمان الدم الأوّل، و تروك الحائض في الثاني.

و حاصل ما ذكرنا من الإشكال على شيخ الجواهر- قدّس سرّه- عدم كون السبق الزماني صالحا للمرجحية، و لكن يحدث من هذا إشكال آخر في مقام آخر،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 91

و هو أنّ جميع أهل العلم طرّا متفقون بكلمة واحدة: على أنّ الأصل في الشك السببي مقدّم عليه في المسببي، و لكنّهم مختلفون في علّته

و جهته.

فبعضهم يقول علّة ذلك أنّ الأصل في السبب إذا جرى يزول به الشك في المسبّب، لأنّه بنفسه قائم بإثبات الحكم فيه لكونه من آثاره الشرعية، و يكون خروج المسبّب عن حكم الأصل لانتفاء الموضوع و هو الشك. و بالجملة يكون خروجه تخصّصا لا تخصيصا.

و أمّا لو جرى الأصل في المسبّب فهو لا يزيل الشك في السبب، إذ ليس الحكم فيه من الآثار الشرعية لهذا الأصل، فلا ينهض بإثباته لعدم حجية الأصل المثبت، فيلزم خروج السبب مع كون موضوع شكه باقيا عن حكم الأصل، فيلزم التخصيص في دليل الأصل، فإذا دار الأمر بين إجراء الأصل في السبب و المسبب و لم يمكن الجمع بينهما كان الأوّل أولى، لأولوية التخصّص على التخصيص، هذه مقالة بعضهم في بيان وجه هذا الحكم و لا كلام معهم هنا و لا إشكال، و آخرون منهم و هم بين طائفتين القائلين بحجية الأصل المثبت، و القائلين بكون الاستصحاب من الأمارات، يقولون بأنّه ليس الأمر دائرة في المقام بين التخصّص و التخصيص، بل بين التخصيصين، و ذلك لأنّ الأصل في كل واحد منهما لو جرى رفع الشك في الآخر، لأنّ المفروض أنّ الأصل في المسبب أيضا متعرض لحال السبب كالعكس، إمّا لحجية الأصل المثبت، و إمّا لأمارية الاستصحاب.

و من الواضح كون المثبت من الأمارة حجة فليس الوجه لتقديم السببي ما ذكروه، بل الوجه هو كون الشك السببي بحسب الرتبة و الطبع متقدّما في عالم الكون و التحقّق على المسببي، و إن كان لا فصل بينهما بحسب الزمان، بل هما

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 92

موجودان في زمان واحد كما هو الحال في كل علّة مع معلولها، و إذن فالشك السببي في

رتبة حدوثه ليس له معارض فيجري حكم الأصل فيه، و بعد ذلك لا يبقى محل للمسببي. هذا.

و قد ذكر شيخنا في الرسائل عدّة وجوه لتقديم السببي و ذكر هذا من جملتها.

فنحن نستشكل عليه- قدّس سرّه- و نقول: كيف التوفيق بين هذا الحكم و بين الاستشكال في هذه المسألة، و ما الفرق بين التقدّم الزماني و التقدّم الرتبي، فإنّه كما قلنا في الفردين اللذين بينهما التقدّم و التأخّر الزماني، إنّ نسبة العام عند التزاحم و عدم إمكان الجمع إليهما في لحاظ الحاكم و المتكلّم على حدّ سواء فترجيحه لأحدهما بلا مرجح، كذلك نقول في الفردين اللذين بينهما تقدّم و تأخّر رتبي لعين ما ذكر هنا، إذ في عالم اللحاظ يمكن تحقّق المسبب في عرض السبب، بل و مقدّما عليه، و لهذا كثيرا ما يحصل الانتقال من المعلول إلى العلّة و ليس إلّا لأنّ الوجود اللحاظي ليس حاله كالخارجي حتى يكون التقدّم فيه للسبب ليس إلّا، بل ذلك مخصوص بالخارجي، و إذن فكما قلتم بأنّ التقدم الرتبي مرجح لحيازة الحكم، فلا بدّ أن تقولوا به في الزماني فلا وجه للتفكيك، إذ التقدّم الزماني لا إشكال في عدم قصوره عن الرتبي، بل هو أولى من الرتبي.

بيان ذلك يحصل ببيان كيفية تقدّم العلّة على المعلول. فنقول: رب وجود و تحقّق و كون لا يحويه الزمان كما في الوصل و الفصل، فإنّهما يتحقّقان في الخارج بحقيقة التحقّق و يوجدان بحقيقة الوجود، و لكن ليس مقدار التحقّق فيهما إلّا آنا عقليّا غير قابل للتّجزية، فيكونان خارجين عن الزمان، لأنّ الزمان من الأمور التدريجية و كل جزء فرض منه فله أوّل و آخر و قابل للتّجزية، فكيف يمكن احتواء

كتاب الطهارة (للأراكي)،

ج 2، ص: 93

ما لا ينفك عن التّجزية على ما لا يقبلها.

إذا عرفت ذلك: فالتحقق و الكون اللازم الحصول في العلّة مقدّما على تحقّق المعلول، هو من هذا القبيل من التحقّق أعني: الثابت في الآن العقلي، فيكون مقدار أسبقية العلّة على المعلول، آنا عقليّا و أمّا الفردان اللذان بينهما السبق و اللحقوق الزمانيان، فأحدهما مقدّم على الآخر بمقدار يزيد على الآن بكثير، فإذا ثبت المرجحية عند التزاحم للتقدّم بمقدار الآن، يثبت للتقدّم بمقدار آنات كثيرة بالغة حدّ التّجزية بطريق أولى.

و يمكن التفصّي عن هذا الإشكال، بأن يقال: إنّهم و إن علّلوا تقدّم السببي في الحكم بتقدّمه، لكن ليس التقدّم بما هو علة لهذا الحكم، بل المناط هو المنشئية و التوليد. و تقريب التعليل حينئذ بأنّا إذا راجعنا العرف و العقلاء، وجدناهم لو حصل لهم شك و نشأ و تولّد منه شك آخر، فهم بحسب الطبع مجبولون بالتوجّه سمت المنشأ، فيتفحصون ابتداء لما يكون عاجلا له، و إذا يئسوا عن علاجه انتقلوا إلى الشك المتولّد منه و التتبع في علاجه و ما لم يحصل هذا اليأس، فهم مجبولون باعمال طرقهم و أماراتهم في رفع الشك الذي هو المنشأ، و إذا ثبت بناؤهم على هذا فنقول: الشارع أيضا واحد من العرف، و يكون بناء كلامه على ما يفهمونه فهو في قوله: «لا تنقض اليقين بالشك» إذا رأى شكّين أحدهما مولّد للآخر، فمع إمكان الجمع فلا كلام و مع التزاحم فهو يرجح الشك السببي، بحسب ما هو قضية بناء العقلاء، و ينعقد من هذه الجهة أيضا لكلامه ظهور في ترجيحه.

ثمّ نقول: امّا الأصول فحيث إنّ موضوعها هو الشك، و لا شبهة في أنّ إجراء الأصل في السبب يزيل

الشك عن المسبب، فبجريانه يرتفع موضوع الأصل في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 94

المسبب، فلهذا لا يحصل تردّد و تحيّر للحاكم بعد وصول النوبة بالمسبب، إذ يرى موضوع عمومه متبدّلا.

و أمّا الأمارات فهي على قسمين: الأمارة المطلقة، و الأمارة المجعولة حيث لا أمارة، ففي القسم الأوّل و إن كان مقتضى البناء المذكور تقدم الإمارة في السبب في الجريان، إلّا أنّ موضوع الأمارة حيث ليس مقيّدا بالشك، و إن كان بغرض رفعه مثل الأخبار حيث إنّه بغرض رفع الجهل و ليس خطابه مع عنوان الجاهل، فلهذا بعد جريان الإمارة في السبب و وصول النوبة إلى المسبب يكون الموضوع باقيا، فلهذا يحصل حينئذ للحاكم التردّد و لم يبق له وجه لترجيح أحدهما.

و أمّا الأمارة التي أماريتها حيث لا أمارة، و بعبارة أخرى تتقدّم على الأصول و تتأخّر عن سائر الأمارات، مثل الاستصحاب على قول، فموضوعها لما يكون مقيّدا بعدم أمارة أخرى و لو من سنخها، فلهذا إذا جرت في السبب بحسب الطبع الارتكازي لم يبق موضوع لفردها الآخر في المسبب، لأنّ المفروض تحقّق الإمارة في البين.

و إن قلت: على تقدير القول بأنّ الاستصحاب أمارة حيث لا أمارة، فليس المراد مطلق الأمارة، بل خصوص ما كان من غير سنخه.

قلت: نعم على هذا الفرض يحصل التوقّف فيها أيضا كالأمارة المطلقة، لكن هو خلاف ما يقولون به فإنّهم يجعلونها أعم ممّا تكون من سنخها، كمن يقول بأصليته حيث يجعل أيضا اليقين الذي هو غاية الاستصحاب، أعم ممّا جاء من سنخه أو من غيره، فلهذا يجعل الاستصحاب في السبب رافعا لموضوع المسبب فتفطّن.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 95

فتحصل ممّا ذكرنا: أنّ المناط في الترجيح لدى التزاحم، هو المنشئية المفقودة

في التقدّم الزماني و الموجودة في الرتبي، فيرتفع الإشكال عن شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- و يكون تفكيكه بين المقامين في محلّه.

و حينئذ نقول: إذا سقط قاعدة الإمكان عن كلا الدمين، فلا بدّ من الرجوع إلى القواعد الأخر، مثل ملاحظة أنّ أحدهما واقع في العادة أو لا؟

فعلى الأوّل يجب الحكم بحيضية ما كان في العادة سواء كان صفرة أم غيرها، و استحاضية الآخر و إن كان حمرة.

و أمّا إن لم يكن الأمر كذلك إمّا بأن تكون المرأة غير معتادة أصلا، و إمّا بأن يكون الدمان متفقين في غير العادة جميعا، فحينئذ إن كان أحدهما واجدا لصفات الحيض، و الآخر للاستحاضة، أو كان صفة الحيض في أحدهما أقوى من الآخر، فإن قلنا بعموم اعتبار الصفات لغير المستمرة أيضا كان الحكم بحيضية الواجد متعيّنا، و إن قلنا باختصاصه بالمستمرة أو لم يكن تمييز في البين أصلا، فحينئذ لا بدّ من الرجوع إلى الأصل العملي و هو مختلف بحسب المقامات.

فإن كانت المرأة عالمة من الخارج: بأنّ أحد الدمين بتمامه حيض و لم تحتمل التلفيق، أو كان الدم الأوّل بقدر أقل الحيض بلا زيادة، فلا إشكال انّ هنا طهرين متيقّنين كل منهما متعقّب بدم مشكوك، و ذلك لأنّ ما قبل الدمين كان طهرا متيقّنا، و تبدّل اليقين بالشك عند رؤية الدم الأوّل، و بعد انقضائه تبدّل الشك أيضا بيقين الطهر، فإنّ النقاء المتخلّل طهر قطعا لفرض عدم احتمال التلفيق، ثمّ زمان هذا اليقين أيضا يمتد إلى زمان رؤية الدم الثاني، فتبدّل بالشك فيه فيكون هنا استصحابان متعارضان، و يكون الحال فيهما بعينه كما تقدّم في تعارض قاعدة الإمكان في الدمين و بعد تساقطهما، فالمقام ممّا يلزم فيه الاحتياط لمكان العلم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 96

الإجمالي بالتكليف، مع سقوط الأصل عن كلا الطرفين، فيجب على المرأة عند رؤية الدم الثاني الجمع بين تروك الحائض و أعمال المستحاضة، و على فرض عدم الاحتياط في الدم الأوّل يضاف قضاء الصلوات الماضية أيضا إلى ذلك، فانّ العلم الإجمالي ثابت بين قضاء الصلوات الماضية و تروك الحائض في اللاحق، و بين أعمال المستحاضة في اللاحق كما هو ظاهر.

و أمّا لو كانت محتملة للتلفيق، و لم تكن عالمة بعدمه لا بالوجدان و لا بالقواعد الشرعية، كما لو كان الدم الأوّل خمسة أيام، ثمّ رأت البياض خمسة أخرى، ثمّ رأت الدم خمسة أخرى، فإنّه يمكن تلفيق ثلاثة من الدم الأوّل مع تمام النقاء، و يومين من الدم الثاني و كون ذلك حيضا واحدا، فتكون محتملات هذه الصورة ثلاثة.

الأوّل: حيضية الأوّل بتمامه، و استحاضية الثاني كذلك.

و الثاني: العكس.

و الثالث: التلفيق بالنحو المزبور، فحينئذ يمكن جر الطهر اليقيني الثابت قبل الدم الأوّل فيه و في أيّام النقاء، و لا يمكن في الثلاثة التي هي الدم الثاني، للعلم بنقض الحالة السابقة الطهرية إمّا به و إمّا بسابقه، لكن هذا الاستصحاب لا يثبت حيضية هذه الثلاثة، فتكون مردّدة بين الحيضية و الاستحاضيّة بدون أصل يقتضي إحديهما، فيجب فيها الاحتياط مع ضم قضاء الصلوات الماضية بحكم استصحاب الطهر، فلا ثمرة عملية بين هذه الصورة و بين سابقتها.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 97

مسألة: [في قاعدة الإمكان]

قاعدة الإمكان في الجملة من المسلّمات ظاهرا، و يمكن الاستدلال عليها بقوله- عليه السّلام- في أخبار تعجيل الوقت بعد الحكم بحيضية ما تراه قبل الوقت بيوم أو يومين: «فإنّه ربّما يعجل بها الوقت»، و لا إشكال انّ لفظة «ربما» ليست دالة على

أزيد من الاحتمال، يعني من المحتمل أن يكون في المقام الشخصي تعجيل الوقت، و هذا تعليق للحكم بالحيضية على مجرّد احتمالها، فيدل إمّا على كون نفس الكبرى و هي «كلّ ما احتمل فيه الحيضية فهو حيض» مسلّمة عند المخاطب، و لهذا لم يستشكل على الإمام بأنّ ذلك لا يوجب سوى مجرّد الاحتمال و هو غير كاف، و إمّا على استفادة الكلية من نفس هذا الكلام، فالمخاطب و إن لم يكن هذا المطلب مرتكزا في خاطره، و لكنّه ينتقل إليه بنفس هذا التعبير و التعليل، كما في قول القائل: أكرم زيدا لأنّه عالم، حيث يستكشف منه أنّ كل عالم يجب إكرامه، و كذا هنا إذا أجاب الإمام بأنّ هذا الدم حيض لأنّه محتمل الحيضية، لأجل احتمال تعجيل الوقت يستكشف منه القاعدة المذكورة، كما لو صدر مثل هذه العبارة من فقيه في مقام الإفتاء، فإنّه لو قال: لما تحتمل أن يتعجّل بها الوقت، فلهذا يكون دمها حيضا لم يبق له محمل سوى استكشاف القاعدة منه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 98

فإن قلت: إنّ لفظة «ربّما» الظاهر كونها للتكثير، فتدل على غلبة تعجيل الوقت، فيكون دليلا على جعل الشارع هذه الغلبة أمارة معتبرة على التعجيل، فيكون أجنبيا عن المرام.

قلت: لو سلّمنا كونها للتكثير فليس لها دلالة أيضا على أزيد من الاحتمال، فإنّ المراد بها حينئذ غلبة وقوع التعجيل في الخارج لا أغلبيّة وقوعه من عدمه.

و بالجملة فمعناه أنّه كثيرا ما يتعجّل بها الوقت، و ليس معنى ذلك أنّه قليلا ما لا يتعجّل بها الوقت، بل من الممكن أن يكون عدم التعجيل أيضا كثيرا، بل أكثر من التعجيل، فلا تكون الغلبة و الكثرة في جانب التعجيل مفيدا سوى الشك

و الاحتمال المساوي لا الراجح بالحيضية، فيفيد ما ذكرنا من تعليق الحكم بالحيضية على سبيل القطع و الجزم بنفس مجرّد احتمالها.

فإن قلت: سلّمنا ذلك، و لكن لمّا كان مورد الرواية المعتادة فلا يمكن التعدّي إلى غيرها، فغايته ثبوت القاعدة في خصوص المعتادة، و من المعلوم أنّ المدّعى أعم من ذلك.

قلت: مع إمكان أنّ لنا أن ندّعي العموم و التعدّي بواسطة عموم التعليل، فإنّ العبرة بعموم اللفظ دون خصوص المورد، يمكن دفع ذلك بأنّه إذا ثبت القاعدة في المعتادة التي لها مرجع مثل العادة، ثبتت لمن ليس لها عادة بطريق أولى، و مثل هذه الرواية أيضا الروايات الواردة في حيضية ما تراه الحبلى معلّلا بأنّه «ربما قذفت الرحم بالدم» أو «ربما بقي في الرحم شي ء».

ثمّ إنّا نتبع في معنى القاعدة على هذا ما يستفاد من الرواية، فنقول في كل موضع أمكن أن يقال: إنّه ربما يكون حيضا فهو مورد للقاعدة، و لازم ذلك أن

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الطهارة (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم - ايران، اول، 1413 ه ق

كتاب الطهارة (للأراكي)؛ ج 2، ص: 99

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 99

يكون موضوع القاعدة هو الإمكان الاحتمالي، فتكون جارية في المبتدئة أيضا بمجرّد رؤية الدم، سواء كان مع الصفات أم بدونها، كما هو أحد الأقوال فيها، فتفطن. لكن على هذا يرد في البين إشكال، و هو أنّه على هذا لا يحتاج الحكم بالحيضية إلى مئونة أزيد من وجود نفس الدم، مع ثبوت الاحتمال فيه، و لا حاجة مع هذين إلى ملاحظة عادة أو صفة، فيلزم على هذا لغوية العادة و الصفة، إلّا في مورد امتنع فيه جريان هذه القاعدة للمعارضة مثل المستمرة و

نحوها، و أمّا في غير ذلك فالقاعدة مقدمة على العادة و الصفة جميعا، لأنّ من المقرر في محلّه أنّه لو اقتضى ذات شي ء حكما، و اقتضى وصف هذا الشي ء الطاري عليه أيضا هذا الحكم، فهذا الحكم مستند و معلّل إلى الذات دون هذا العرض، لأنّ مرتبة الذات مقدّمة في الكون على ما يعرض عليها، و لا إشكال أنّ استناد المعلول يكون إلى أسبق علّتيها، و على هذا فلا بدّ من حمل الأخبار الدالّة على اعتبار العادة أو الصفة على خصوص المستمرة و نحوها من كل مورد سقط فيه القاعدة عن الأمارية و العلامية بالمعارضة.

و لا يخفى عليك أنّ بعضها و إن كان قابلا لهذا الحمل، و لكن البعض الآخر يأبى عنه و هو طائفتان منها:

الأولى: الأخبار المطلقة الدالة على أنّ الصفرة و الكدرة في أيام الحيض حيض، و في غيرها ليس بحيض، فإنّها كما ترى دالّة على اعتبار العادة: بمعنى الحكم على الدم المرئي في غيرها بكونه استحاضة، من غير اشعار فيها بكون ذلك حكما لخصوص ما سقط فيه القاعدة عن الحجية، بل الموضوع فيها مطلق المرأة كما مرّ غير مرّة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 100

و الثانية: أخبار الاستظهار، فإنّها دالة على أنّ ما بعد أيام الاستظهار إلى تمام العشرة استحاضة، و هذا اعتبار للعادة مع أنّ ما بعدها أيضا قد يكون موردا للقاعدة، و هو ما إذا احتمل انقطاع الدم على العشرة أو ما دونها، و على هذا لا بدّ و أن تحمل تلك الأخبار على خصوص مورد لم يكن هذا الاحتمال في البين: بمعنى أن يكون الحكم بالاستحاضة مقيّدا بحال يأس المرأة عن الانقطاع، و قطعها بالنقاء إلى ما بعد العشرة، و

يكون الاستظهار مقيّدا بحال رجائها و احتمالها الانقطاع، فيكون الحكم في تلك الأيام بالحيضية موافقا للقاعدة و لأجلها.

و أنت خبير بأنّ هذا الحمل أيضا ممّا تأبى عنه هذه الأخبار أشد الامتناع، فلاحظها حيث لا يكون في أحد الحكمين فيها إشعار بشي ء من القيدين، بل كل منهما مطلق بالنسبة إلى كلتا الحالين.

و يمكن أن يقال: بأنّ القاعدة أمارة حيث لا أمارة، بمعنى أنّها مشتركة مع الأصل في أنّ موضوعها الشاك بما هو شاك، فهي أمارة مجعولة في موضوع الشاك مع لحاظ هذا القيد فيه، و على هذا فتكون العادة و الصفة مقدمتين عليها، لأنّ كلا منهما أمارة مطلقة فإذا كان في البين عادة أو صفة، فهنا ليس بحسب الشرع حالة احتمال و ترديد، إذ لا يتحقّق الاحتمال مع قيام الأمارة المعتبرة الشرعية، فليس حينئذ مجال للإتيان بلفظة «ربما» فلهذا يكون الحكم في مورد العادة أو الصفة بالحيضية لا محالة مستندا إليهما دون القاعدة، فينحصر مورد القاعدة في غير مورد العادة و التميّز، كأن لم تكن المرأة ذات عادة أصلا، و لم يكن الدم بالصفة أو رأت في غير عادتها مع عدم الصفة.

إلّا أن يقال: إنّ ظاهر الأخبار أنّه كما تكون العادة و الصفة عند ثبوتهما

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 101

علامتين على الحيضية، كذلك تكون الصفرة في غير أيام العادة أيضا علامة و أمارة للاستحاضة، فيلزم عدم جريان القاعدة في غير مورد ثبوتهما أيضا.

و بالجملة فقوله: «الصفرة و الكدرة في أيام الحيض حيض» كما يدل على أنّ الحكم بالحيضية يكون لأمارية العادة و مستندا إليها، كذلك قوله: «و في غير أيام الحيض ليس بحيض» يدل على أنّ الحكم بعدم الحيضية يكون لأمارية الصفرة للاستحاضة، فيكون

محصل الفقرتين أنّ الصفرة في أيام الحيض ليس لها علامية و أمارية للاستحاضة، بل الترجيح لعلامة الحيض و هي العادة، و أمّا في غير أيام العادة فهي علامة على الاستحاضة غير معارضة، و على هذا فحيث قد فرض أنّ القاعدة إنّما هي مشروعة في موضوع الاحتمال و التحيّر، و هو لا يحصل إلّا بعدم الطريق الشرعي الرافع للتحير، إمّا بتعيين الحيضية أو بتعيين الاستحاضية، فلا جرم تكون الصفرة أيضا علامة مقدمة على القاعدة.

و يمكن دفع ذلك بأنّ ظاهر الفقرة الأولى و إن كان أمارية العادة، و لكن ليس الفقرة الثانية ظاهرة في أنّ الصفرة علامة للاستحاضة، بل مفادها ليس بأزيد من نفي العلامية للحيض من جهة الصفرة، فيكون محصّل الفقرتين أنّ الصفرة في أيام الحيض حيض مطلقا، و أمّا في غير أيّام الحيض فلا يحكم مطلقا بحيضيته، بل ربما تكون حيضا لو كان هنا أمارة أخرى على الحيضية، و ربما تكون استحاضة لو لم يكن أمارة أخرى أيضا، فالفقرة الثانية على هذا تكون في مقام نفي علامية الصفرة للحيض، و نفي الحيضية المطلقة في قبال الحكم بها في الفقرة الأولى، لا في مقام إثبات علاميتها لنفي الحيض و الحكم بنفي الحيض مطلقا، و بعبارة أخرى يكون مفادها سلب المطلق لا السلب المطلق، فيكون المتحصل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 102

منها لا علامية الصفرة فيرتفع الإشكال.

و يمكن أن يخدش في أصل دلالة هذين الصنفين من الروايات، أمّا روايات الحمل فبأن يقال: إنّ الحكم بالحيضية فيها ليس معلّلا بالاحتمال، و ذلك لأنّ السائل إنّما كان منشأ شبهته هو تخيّل أنّ الحيض لا يمكن أن يجتمع مع الحمل، مع الفراغ عن سائر شرائط الحيضية و موانعها، فالإمام

ذكر لرفع هذا التخيل «أنّ كثيرا ما يجتمع الحيض مع الحبل» فالحكم بالحيضية معلّلا بذلك ليس إلّا دفعا للمانع من جهة الحمل، و حيث إنّ الفرض هو الفراغ عن سائر الشروط، فالحكم في الحقيقة مستند إلى المجموع، و يشهد لهذا أي لعدم كون الحكم في تلك الأخبار مستندا إلى محض هذا الاحتمال، التصريح في بعضها بالتفصيل بين صورة جامعية الدم للصفات و بين غيرها، فخصّ الحكم بالصورة الأولى.

و أمّا روايات التعجيل فبأن يقال: إنّها ذات احتمالين:

أحدهما: أن يكون المذكور فيها حكما على موضوع الاحتمال مع عدم التعرض لغيره: بأن كان السائل سأل عن الدم الذي تراه المرأة قبل عادتها بيوم أو يومين، أي عن حكم هذا الدم على نحو الإطلاق، من دون أن يأخذ في ذهنه مقدمة أخرى مفروغا عنها، فأجاب الإمام في هذا الموضوع «بأنّ الدم حيض لأنّه يحتمل تعجيل العادة» و هذا ظاهر أنّه دليل على القاعدة.

و الثاني: أن يكون جهة شبهة السائل خصوص تخلّف الدم عن العادة، بحيث لو لا هذه الجهة لما كان له ترديد في الحكم بالحيضية لاجتماع الأسباب المقتضية لها، فأجاب الإمام دفعا لهذه الشبهة «بأنّه كثيرا ما يتعجّل العادة» فحكم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 103

بالحيضية جزما من حيث إنّ الأسباب موجودة و المانع المتوهم مانعيته ليس بمانع، و على هذا فليس في الرواية دلالة على القاعدة، إذ لم يعلم أنّ الحكم بالحيضية بعد دفع احتمال المانعية، هل هو لأجل هذه القاعدة أو لغيرها كالصفات، فإذا دار الأمر بين هذين الاحتمالين سقطت الروايات عن الحجية و صحّة الاستدلال، هذا هو الكلام في هذه الروايات.

و ممّا يستدلّ به على القاعدة المذكورة الإجماع، و لا يخفى أنّ معقده أنّ

كلّ ما أمكن أن يكون حيضا فهو حيض، فلا بدّ في تنقيح المراد من لفظة «الإمكان» فنقول: من جملة معاني هذه اللفظة، الإمكان الذاتي في مقابل الامتناع بالذات، و الوجوب كذلك، و المراد به ما يقابل هذين، و المراد بالامتناع بالذات: هو أن يكون الشي ء بحيث كان تصور ذاته كافيا في الجزم بامتناعه، من دون حاجة إلى إقامة برهان مثل اجتماع النقيضين، كما أنّ الامتناع بالغير: عبارة عن كونه بحيث احتاج الجزم بامتناعه إلى مئونة برهان مثل شريك الباري، و من الواضح أنّه ليس هذا المعنى مرادا في المقام، و لا بدّ أن يعلم أنّ الامتناع الفعلي، و الوجوب الفعلي، لا واسطة بينهما حتى تسمّى تلك الواسطة بالإمكان، و ذلك لأنّ الشي ء إمّا لا يكون نقص في مقدّمات فعليته و تحقّقه في الخارج أصلا، و بعبارة أخرى قد تم جميع أجزاء علّته التامة، و إمّا يكون فيها النقص بعد، و بعبارة أخرى ما تم أجزاء علّته التامة، فعلى الأوّل هو واجب بالعرض، و على الثاني ممتنع كذلك، و ذلك لامتناع انفكاك المعلول عن علّته وجودا و عدما، فالإمكان الفعلي غير متحقّق حتى يكون محتمل الإرادة هنا.

نعم يمكن ملاحظة الإمكان في مرحلة الوقوع و التحقّق الخارجي بالنظر إلى

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 104

جملة معينة من الشرائط و الموانع لوجود الشي ء «1»، فيقال: لا مانع و لا محذور في وقوع هذا الشي ء في الخارج من حيث هذه الشروط و الموانع، و يعبّر عن هذا الإمكان الإضافي بالإمكان الوقوعي، و هذا محتمل الإرادة في المقام: بأن يلاحظ الإمكان و عدم الامتناع بالإضافة إلى خصوص الشرائط، و الموانع الشرعية المقرّرة للحكم بحيضية الدم في الظاهر، لا بالنسبة

إلى تمام ما له دخل في حيضيته واقعا و في علم اللّٰه.

و من جملة معاني هذه اللفظة أيضا الاحتمال في مقابل القطع بأحد الطرفين، و هو أيضا محتمل الإرادة فصار أمر اللفظة في معقد الإجماع مردّدا بين هذين المعنيين، و تظهر الثمرة بينهما في أنّه على الأوّل، لا مجرى للقاعدة في أوّل زمان رؤية الدم، قبل إحراز استمراره إلى ثلاثة أيام، فإنّ من جملة الشرائط الشرعية لحيضيته ذلك، فقبل إحرازه يكون الدم شبهة مصداقية للقاعدة، لأنّ أمره دائر بين أن يكون ممتنعا واقعا، و هو على تقدير عدم حصول هذا الشرط، و بين أن يكون ممكنا و هو على تقدير حصول، و أمّا على الثاني فيجوز التمسّك بالقاعدة في أوّل الرؤية، لأنّ الدم حينئذ مصداق حقيقي للمحتمل الحيضية الذي هو موضوع القاعدة.

ثمّ لا يخفى أنّه عند الدوران بين ارادة هذين في لفظ «الإمكان» الواقع في معقد الإجماع يتعيّن الحمل على الأوّل، لأنّه أخص موردا من الثاني كما عرفت، فيكون قدرا متيقنا من الإجماع الذي هو الدليل اللبّي.

______________________________

(1)- بمعنى عدم المحذور بحسب الموانع من وجوده، بحيث لو لم يوجد كان مستندا إلى عدم المقتضى، و أمّا عدم المحذور في وجوده من جميع الجهات حتى من حيث تحقّق المعلول بدون علّته، فهو معنى الوجوب دون الإمكان- منه عفى عنه-

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 105

فيرد الإشكال حينئذ بأنّه لا بدّ على هذا في الحكم بالحيضية، مستندا إلى القاعدة من انتظار انقطاع الدم على العشرة أو ما دونها، كانتظار استمراره إلى الثلاثة، إذ كما أنّ من شرائط الحيض الاستمرار إلى ثلاثة، كذلك عدم التجاوز عن العشرة، فقبل إحرازه أيضا لم يحرز كون الدم من أفراد ممكن الحيضية، و

يكون التمسّك تمسّكا في الشبهة المصداقية و هو خلاف الإجماع، فإنّهم متّفقون على جريان القاعدة بعد الثلاثة، و إنّما الخلاف مخصوص بما قبلها.

إلّا أن يذب عن هذا الإشكال: بأنّ هذا الشرط يمكن إحرازه قبل مجي ء اليوم العاشر بالأصل الشرعي، و هو أصالة عدم حدوث الدم في الزائد على العشرة، فإنّ من المقرر في محلّه أنّه لو تحقّق مجرى الأصل في الزمان الآتي، و كان له أثر شرعي بالنسبة إلى الزمان الحاضر كان الأصل جاريا، و يترتّب عليه الأثر في الزمان الحاضر.

إلّا أن يقال: بأنّه يرد على التمسك بهذا الأصل لإحراز هذا الشرط، مضافا إلى توقّفه على القول بالأصل المثبت، لأنّ لسان الأصل إنّما هو عدم حدوث الدم الزائد، و لازمة عقلا هو اتصاف الدم الموجود في الزمان الحاضر بالإمكان، فلا يفيد لإثبات هذا الذي هو المهم إلّا على الأصل المثبت، أنّه معارض بالأصل الجاري في العكس، و هو أصالة بقاء الدم إلى ما بعد اليوم العاشر، فإنّ نفس الدم أمر وحداني يستمر باستمرار الزمان و الزمان ظرفه، فبهذا الاعتبار لا إشكال في جريان استصحاب البقاء.

نعم شخص الدم الحادث في خصوص الزائد بحيث جعل الزمان قيدا مشخّصا للموضوع، يكون مقتضى الاستصحاب عدمه فالاستصحابان

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 106

متعارضان.

و يمكن دفع الثاني بما مرّ سابقا من عدم التعارض بين استصحابي الوجود و العدم، لأنّ كلا منهما جار على تقدير و لا يجري الآخر على هذا التقدير، و ليس ملاحظة الزمان تارة قيدا و أخرى ظرفا تحت اختيارنا و مشيتنا، بل المتبع في ذلك لسان الدليل الدال على اشتراط عدم التجاوز عن العشرة، فلا بدّ من ملاحظة أنّ المستفاد منه أي من النحوين، و أمّا الإشكال

الأوّل، و هو عدم إثبات الأصل المذكور اتصاف الدم بالإمكان فوارد لا محيص عنه، و هو وارد أيضا على التمسّك لعدم اجراء القاعدة قبل الثلاثة بأصالة عدم حدوث الدم في ما بعد، فإنّه أيضا كالتمسّك على الاجراء بعدها بهذا الأصل، فكما لا يثبت به في الثاني اتصاف الدم بالإمكان، لا يثبت به في الأوّل اتصافه بعدم الإمكان، فتدبر.

و يمكن أن يقال: إنّ الإمكان بحسب الشرائط فقط: يعني كل دم أمكن و لم يمتنع حيضيته من حيث الشرائط: من قبيل البلوغ و عدم اليأس و الاستمرار إلى ثلاثة أيام، فهو محكوم بالحيضية، و أمّا عدم التجاوز عن العشرة فليس من شرط حيضية هذا الدم، إذ يمكن أن يكون هذا حيضا و تجاوز الدم العشرة مع ذلك، بل التجاوز يجعل المقام من باب التّزاحم و ذلك لتحقّق دمين جامعين للشرائط مع عدم الجمع لهما في الحيضية، فإنّه استفيد من الشرع أنّ كل دمين لم يفصل بينهما العشرة، فليس لهما الجمع في الحيضية، و على هذا فالحكم بالحيضية يكون معلّقا على مضي الثلاثة لإحراز الشرط، و لكن لا يكون معلّقا على مضي العشرة و انقطاع الدم عليها أو ما دونها، لأنّ غاية ما يلزم لو اتفق التجاوز هو التزاحم، و بناء العرف إنّما هو العمل بأحد المزاحمين ما لم يروا و يعلموا المزاحم الآخر، ألا ترى أنّهم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 107

يعملون بالعام قبل الظفر بالخاص، و بالخبر الواحد قبل الظفر بالخبر الواحد الآخر المعارض، هذا حال قبل التجاوز.

و أمّا بعد حصوله فيرجع عن الحكم الحيضية إلى ما تقتضيه القواعد الأخر، و ربما كان مقتضاها الحكم باستحاضية أوّل الدم و حيضية آخره، و ليس هذا منافيا

لقاعدة الإمكان و خرقا للإجماع، إذ على هذا يكون الإجماع منعقدا على نفس القاعدة بوصف كونها قاعدة، و من المعلوم أنّ الحكم على نحو القاعدة معناه الرجوع عنه لو ورد خاص بخلافه، و بعبارة أخرى معقد الإجماع هو إثبات الحكم ما لم يعلم خلافه، فإذا علم الخلاف خرج عن موضوع الإجماع.

نعم لو كان إجماع على كل واحد واحد من الآحاد كان الرجوع المذكور خرقا له.

و حاصل هذا الوجه: أخذ الإمكان من حيث الشرائط دون الموانع، و جعل معقد الإجماع هو الحكم على نحو القاعدة. و لو ثبت الإجماع على الحكم بالحيضية بعد مضي الثلاثة مطلقا، يكشف عن ثبوت الإجماع على هذا النحو، و لكن الشأن في ثبوت ذلك، و الانصاف عدم إمكان الجزم به، و حينئذ يمكن دعوى الإجماع على معنى آخر أخص من هذا المعنى، و هو قدر متيقّن بالإضافة إليه.

و هو أن يقال بثبوته على حيضية المنقطع على العشرة، فإن كان من المعلوم الانقطاع عليها حكم بالحيضية من غير فرق بين جامعية الصفات و غيرها و بين ما قبل الثلاثة و ما بعدها، و أمّا مع عدم العلم بذلك فلا يحكم بالحيضية على نحو الإطلاق و حتى بعد الثلاثة، بل المرجع هو القواعد الأخر.

و حاصل هذا الوجه: أخذ الإمكان من حيث الشرائط و الموانع معا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 108

فبناء على هذا المعنى للإمكان، نقول في مقام الجمع بين قاعدة الإمكان مع الأخبار أنّ لنا ثلاث طوائف من الأخبار:

الأولى: الأخبار المتقدمة في أوّل الرسالة الدالّة على إيجاب الرجوع إلى الصفات، معلّلا بأنّ دم الحيض ليس به خفاء، و موضوعها و إن كان هو المستمرّة، لكن لا ريب في استفادة الكلّية منها، لوضوح

أنّ عدم الاختفاء من صفات ذات الدم و لا يختصّ به عند الاستمرار، و لهذا قالت السائلة ففي بعض هذه الأخبار «أ ترينه كان امرأة» و بالجملة لا إشكال في أنّ المستفاد منها أنّ كل دم أحمر أو أسود حيض، و كل دم أصفر استحاضة.

و الثانية: أخبار المتقدمة أيضا الدالّة على أنّ الصفرة في أيام الحيض حيض، و في غير أيام الحيض استحاضة، و كان في بعضها بدل الصفرة «الدم».

و الثالثة: الأخبار الاستظهار، فنقول: مع الغضّ عن الطائفة الثالثة التي هي أخبار الاستظهار: يعني مع فرض أنّ لنا الطائفتين الأوليين، مع قاعدة الإمكان فقط إنّ الجمع العرفي موجود. بيانه أنّا ذكرنا سباقا أنّ وجه رفع اليد عن الكلية المستفادة من الطائفة الأولى، هو لزوم التخصيص المستبشع على تقدير الحمل عليها، إذ لا يبقى تحتها سوى المستمرة، لأنّ غيرها إمّا مشمولة للعادة، أو لقاعدة الإمكان، و لكن على هذا نقول: الفرد الذي جعلناه القدر المتيقّن للإجماع على قاعدة الإمكان، و هي العالمة بانقطاع الدم على العشرة إمّا معدوم رأسا، و إمّا نادر ملحق بالمعدوم، و بعد الإغماض عنه، فالباقي و هو الأفراد الكثيرة من النساء، كلّها مشمولة لأخبار الصفات.

نعم قد استثني من هذه الأفراد من رأت الدم في أيّام عادتها، فإنّها تحكم

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 109

بالحيضية و إن كان بصفة الصفرة كما هو مدلول الطائفة الثانية، فيقدّم الإجماع على الكلية المذكورة بالنسبة إلى الفرد النادر، و يقدّم الطائفة الثانية المتعرّضة للدم في أيام العادة أيضا عليها، و وجه تقديم الثانية أنّ النسبة بينها و بين الكلية ليس هو العموم من وجه: بأن كان مفاد الكلّية أنّ كل دم أحمر حيض و إن كان

في غير أيام العادة، و كل دم أصفر استحاضة و إن كان في أيام العادة، و كان مفاد الثانية أنّ كل دم في العادة حيض و إن كان أصفر، و كل دم في غيرها استحاضة و إن كان أحمر، بل مفاد الكلية و إن كان ما ذكر، و لكن مفاد الطائفة الثانية إنّما هو التصريح: بأنّ الصفرة في أيام العادة حيض، و بعبارة أخرى ليس شمولها للصفرة كشمول الأولى لأيام العادة على نحو الشمول و الإطلاق، بل يكون على نحو التصريح، فيكون لها نظر حكومة على الكلية المذكورة، فتكون مقدمة على الكلّية قهرا.

نعم يبقى الكلام في أنّه كما مرّ يكون في بعض أخبار الطائفة الثانية بدل الصفرة «الدم» و لفظ الدم على ما يظهر من شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- اختياره يكون منصرفا إلى خصوص الأحمر، بشهادة مقابلته في بعض الأخبار مع الصفرة، و ملاحظة مرادفه في الفارسية و هو لفظ «خون» حيث إنّه منصرف عن الصفرة و يقابلها و يقال لها «خونابه» و على هذا فلا يمكن تقييد الفقرة الثانية من هذه الأخبار الدالّة على استحاضية الدم في غير أيام العادة بخصوص الصفرة جمعا بينها و بين الكلية المذكورة، إذ يلزم حمل المطلق و هو لفظ «الدم» على الفرد النادر و هو الصفرة، و بعد سدّ باب هذا التقييد انتفى الجمع العرفي بين هذا الصنف من الطائفة الثانية و بين الكلّية.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 110

و لكن يمكن أن يقال بثبوت الجمع العرفي هنا أيضا، بأن يقال: إنّ التبادر و الانصراف المذكور لا إشكال في أنّه حصل من الإطلاق، و لا من حاق اللفظ بمعنى أنّ المنفهم من حاقه مع الغض عن الإطلاق، هو

المعنى الأعم و ليس انفهام الخاص إلّا بملاحظة الإطلاق، و ما كان كذلك يمكن انفكاكه عن اللفظ، ألا ترى أنّ لفظة «شكر» في الفارسية له انصراف إلى خصوص الأبيض، بحيث يكون تقييده به باردا و مثل التقييد في قولك (ماست سفيد)، و لكنّه قد ينفك منه هذا الانصراف و يكون تقييده صحيحا و واقعا في المحل، كما في مقام إطلاق الطبيب في نسخة المعالجة للمريض، ألا ترى أنّهم يقيّدونه و يكتبون (شكر سفيد) و هذا بخلاف الشخص الصحيح إذا أراد الشراء فلا يقول للعطار مثلا (شكر سفيد مى خواهم) فنقول: نظير هذه اللفظة لفظة (خون) فلا ينافي تبادر خصوص الأحمر منه عند الإطلاق، انفكاكه عنه و صحّة التقييد في بعض المقامات، ألا ترى أنّه لو قيل: (زن جوانى خون ديده) يتبادر منه الأحمر، و لو قيل:

(زن پيرى خون ديده) ليس له هذا الانصراف، و وجهه أنّ في مورد المرأة المسنّة لا يكون الدم بصفة الحمرة إلّا في شاذ من الأوقات، و الغالب كونه بصفة الصفرة.

و إذن فيمكن أن يقال: إنّ حال الدم المتجاوز عن أيام العادة المتعارفة، مع فرض الرؤية فيها حال الدم المضاف إلى المرأة المسنّة، فإنّ الفرد الغالب في هذا أيضا هو الأصفر، لأنّه في زمان فتور الدم و انتهائه، و الغالب فيه التبدّل إلى الصفرة، و على هذا فيكون الفرد النادر في أوّل الدم هو الأصفر و في آخره هو الأحمر.

و بالجملة المدّعى إثبات عدم الانصراف لا الانصراف إلى الخلاف: بمعنى أنّ تقييد الفقرة المذكورة بخصوص الأصفر بحكم الكليّة المذكورة، لا يكون من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 111

قبيل التقييد بالفرد النادر.

هذا كلّه مع قطع النظر عن أخبار الاستظهار. و أمّا مع

النظر إليها، فلو كان المذكور في تمامها لفظ الدم كان الأمر سهلا لوجود الجمع العرفي، و هو حمل الدم على الجامع فيكون الحكم بالحيضية على طبق الكلية، و كان الاختلاف في عدد الأيام باليوم الواحد و اليومين و الثلاثة و حيت العشرة، منزلا على الاختلاف في عدد ما يفصل بين العادة و تمام العشرة، ففي ما كان العادة تسعة واحد و في ما كانت ثمانية اثنان و هكذا، و لكنّه قد عرفت في ما تقدم أنّ الأمر ليس كذلك، لوجود الدم الرقيق في بعض تلك الأخبار و لا محمل له سوى الصفرة، فالحكم بالحيضية لا يجامع الكلية المذكورة بوجه، و لهذا ذكرنا أنّه لا جمع عرفيا بين هذه و الطائفة المتقدمة، و ليس أيضا من مقام الرجوع إلى المرجح السندي، لكون كلا الطرفين متواترا قطعيا فلا يبقى سوى التخيير الأصولي، أعني: التخيير في الحجية. و حينئذ فإن أخذنا بالطرف الآخر للتخيير و هو غير أخبار الاستظهار، فقد عرفت أنّه يتحقّق بين تينك الطائفتين من الأخبار مع قاعدة الإمكان جمع عرفي، و يصير الأمر في غاية السهولة ..

[الفصل الثاني] في الاستبراء:

اشارة

لا يخفى أوّلا عدم التنافي بين أخباره و أخبار استحاضيّة ما زاد عن العادة، أو عن أيام الاستظهار حيث تدل على حيضية الدم عند خروج القطنة متلطخة، حتى لو كان ذلك عند انقضاء العادة، أو أيام الاستظهار، و هما يدلّان على كون الزائد استحاضة، وجه عدم المنافاة ورود الأخبار، الأول في كل مورد كان حيضية الدم عند خروجه مفروغا عنها، مثل أثناء العادة و أثناء أيام الاستظهار لو قلنا بوجوبه، و الشاهد قوله: «انقطع الدم فلا تدري أطهرت أم لا»، ففرع الجهل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 112

على الانقطاع، يعني: لو كان غير منقطع ما شك في حيضيته، فعلى هذا لا إطلاق لها بالنسبة إلى المعتادة خمسا، إذا انقضى الخمس و استظهرت بثلاثة فصار ثمانية، ثمّ انقطع الدم ظاهرا مع احتمال بقائه في الباطن في التاسع فلا يشرع في حقّها الاستبراء، إذ لو كان الدم في الظاهر كان محكوما بعدم الحيضية، كما أنّه لو قلنا باستحباب الاستظهار كان عمل الاستبراء في أيامه مستحبا، و من هنا ظهر ما في عبارة من عبّر بما ظاهره الإطلاق لما بعد الاستظهار مع قوله باستحبابه.

و حق العبارة أن يقال: لو انقطع الدم لدون عشرة مع احتمال بقائه في الباطن، و كان بحيث لو ظهر في الخارج كان محكوما بالحيضية وجب الاستبراء بإدخال القطنة، فإن خرجت نقية وجب الغسل، و إن خرجت متلطخة فالمبتدئة و من لم تستقر لها عادة تصبر ان ما دام خروج القطنة متلطخة، إلّا أن تمضي العشرة و كذا من له العادة عشرا، و أمّا من له عادة أقل منها تصبر أيضا ما دام التلطّخ ما لم تخرج عن العادة وجوبا، و بعدها ما لم ينقض الاستظهار استحبابا على القول بالاستحباب، و على القول بالوجوب في كليهما وجوبا، و أمّا بعدهما فليس بواجب و لا مستحب بل يحكم بالاستحاضة.

ثمّ إنّ في أخبار الاستبراء احتمالات:

الأوّل: الإرشاد

بمعنى أنّ المراد الإرشاد إلى عمل كان فائدته خروج الغسل و سائر العبادات عن معرضية الفساد و اللغوية، و عن كونها بحيث ربما ظهر فسادها بانكشاف وقوعها في حال الحيضية، و كذا الصون عن وقوع أعمال وظيفة الحائض على تقدير اختياره باستصحاب الحيض في غير المحل، لانكشاف الطهر حينه في المستقبل.

و الحاصل كأنّه قال: إن أردت أن لا يقع عملك متزلزلا و قابلا لأن

ينكشف

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 113

وقوعه مع عدم الموضوع فعليك بعمل الاستبراء، و إن أردت تركه فلك الخيار، و هذا خلاف الظاهر من صيغة الأمر، فإنّ إرادة الإرشاد خلاف ظاهرها في كل مقام بل الظاهر هو المولوية.

الثاني: الوجوب النفسي:

بأن يكون واجبا بلحاظ نفسه في قبال سائر الواجبات النفسية الثابتة في الشريعة، من دون ملاحظة واجب آخر في إيجابه، و هذا أيضا خلاف الظاهر كما يظهر وجهه من الشق اللاحق.

الثالث: الوجوب الشرطي:

بأن يكون واجبا لأجل المقدمية الوجودية و الشرطية لصحّة الغسل، فكما أنّ صحته منوطة ببعض أمور أخر، كذلك في حقّ هذه الحائض المترددة تناط الصحة بالاستبراء أيضا فلا يصح بدونه، و هذا ظاهر من قوله: «إذا أرادت الحائض أن تغتسل فلتستدخل قطنة» فانّ الظاهر الأوّلي من هذه العبارة كون وجوب الاستدخال مشروطا بإرادة الغسل، مثل: «إن استطعت فحج» و لكن هذا المعنى مقطوع عدم إرادته من العبارة، إذ لا يحتمل أحد أن يكون من الواجبات النفسية في الشريعة هو عمل الاستبراء أجنبيا عن الغسل و غيره، و كان مشروطا وجوبه بإرادة المكلّف الغسل.

و هذا جار أيضا في قوله تعالى إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا «1» يعني:

إذا أردتم القيام فنقطع بعدم إرادة كون الغسل واجبا نفسيا مشروطا وجوبه بإرادة القيام، فإذن لا بدّ من الحمل على أنّ المراد بعد الفراغ عن وجوب الصلاة و فهم المخاطب له و تداوله في ما بينهم، فكأنّه قال: حين ما تريدون الصلاة التي صار من شغلكم إرادتها يجب عليكم الغسل، و هذا المعنى يفيد الشرطية و إلّا لم يكن

______________________________

(1)- المائدة/ 6.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 114

ارتباط بين الغسل و بين الصلاة، بل لا بدّ من أن يكون ذلك لأجل أنّ حصول المطلوب يتوقّف عليه، لكونه مقيّدا بمصاحبته و كذا الكلام في ما نحن فيه حرفا بحرف، و لكن هذا، أعني: الحمل على الشرطية يستلزم بطلان الغسل حتى مع نسيان الاستبراء، أو عدم التمكن منه لفقد الشرط المعتبر

شرعا، و هذا خلاف ما يلتزمونه من صحته عندهما لو انكشف براءة الرحم حالهما في المستقبل.

فإن قلت: لو كان بيان شرطية الشرط بقولنا: فلان شرط لكذا كان له الإطلاق لجميع الحالات: من الذكر، و النسيان، و القدرة و عدمها، و أمّا لو كان بيانها بصيغة الأمر فحيث إنّ الخطاب لا يمكن توجيهه إلّا نحو القادر و الذاكر، فلا جرم تصير الشرطية في حق الناسي و غير القادر بلا دليل و غير مشمول لإطلاق الدليل.

قلت: قد بيّن جواب ذلك في محلّه: و هو أنّه و لو سلّمنا عدم صحة توجيه الطلب نحو الناسي كغير القادر، لكن نقول فيه و غير القادر أنّا نأخذ في إثبات الشرطية بإطلاق المادة، إذ لا مانع من جريانه فيهما و المانع إنّما هو في جانب الهيئة، فالهيئة و إن كانت مقيّدة عقلا بغيرهما، و لكن نفهم من إطلاق المادة و عدم تقييده بحال من الأحوال، أنّ الشرط نفسه في جميع الأحوال، فإذن لا يبقى وجه لما ذكروه من الصحّة في تينك الحالين.

و يمكن أن يقال في توجيهه: بأنّ الوجه في رفع الشرطية حالهما قضية حديث رفع النسيان و ما لا يطيقون، فإنّه بعد فرض شموله لغير المؤاخذة من الآثار الأخر بقرينة استشهاد الإمام به، لفساد الحلف الإكراهي بالطلاق و العتاق، لا مانع من العمل به لرفع الآثار الوضعية من الشرطية، و الجزئية، و غيرهما عند نسيان الإتيان

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 115

بموضوعيهما في الخارج لا عند نسيان نفسهما، إذ رفعهما حينئذ مستلزم للدور، للزوم تقيدهما بالعلم بهما، غاية الأمر أنّك تقول: إنّا نقطع في كثير من موارد في الشريعة لم يسقط الشرط أو الجزء بنسيانهما، فرفعهما بنسيان الموضوع خلاف

المعهود من الشريعة، كما لا يخفى على لاحظ الشرائط و الأجزاء للصلاة و غيرها، فجوابك أنّ تلك الموارد خرجت عن الحديث بالإجماع.

فإن قلت: هذا الوجه الذي [ذكرت] من حمل الأخبار على الوجوب الشرطي غير معقول من الأصل، لاستلزام تقدّم وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها مع كونه معلولا له و من ترشحاته، و ذلك لأنّك قلت: إنّ الاستبراء شرط و مقدمة وجودية للغسل، و المفروض أنّ المرأة مرددة في وجوب الغسل عليها و عدمه، للشك في تحقّق شرط وجوبه من نقاوة الرحم، فكيف وجب عليها ما هو شرط صحّة الغسل مع أنّه شاك في وجوب أصل الغسل.

قلت: من الممكن أن يوجب الشارع مقدمة واجب عند الشك في وجوب ذاك الواجب من باب الاحتياط، و لأجل صون شرط الواجب على تقدير وجوبه، فيكون وجوب المقدمة حينئذ وجوبا طريقيا لحفظ الواقع: يعني أريد به حفظ شرط الغسل لو كان واجبا في الواقع: بأن كانت المرأة طاهرة، فتفطّن.

ثمّ إنّ للوجوب الشرطي هنا احتمالين:

الأوّل: كون الشرط نفس العمل الخارجي الأركاني الذي هو إدخال القطنة.

و الثاني: كونه أمرا آخر يكون ذلك العمل الخارجي محقّقا و محصّلا له، و هو إحراز نقاوة الباطن و الظاهر هو الثاني، لقوله: «فإن خرجت أي القطنة نقية وجب الغسل»، فرتّب وجوب الغسل على ما حصل من إدخال القطنة، و هو إحراز

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 116

النقاوة.

ثمّ شرطية نتيجة العمل الخارجي بحسب عالم التصوّر يمكن على نحوين:

الأوّل: أن يكون الشرط هو النقاوة بواقعها و لو لم يكن معها إحراز.

و الثاني: أن يكون الإحراز أيضا دخيلا في الشرط. و تظهر الثمرة في ما لو غسلت بدون الإحراز، ثمّ تبيّن كونها نقية حين الغسل، فعلى الأوّل يصح،

و على الثاني [لا يصحّ] لعدم وجود جزء ممّا هو الشرط واقعا و هو الإحراز.

و الثاني و هو شرطية الإحراز، و العلم بالنقاوة أيضا ذو احتمالين:

الأوّل: أن يكون ملاك اشتراطه حصول الجزم في القربة للمكلّف، و لا ينافي ذلك ما قرّر في محلّه: من عدم شرطيته في العبادة عقلا، إذ يمكن وجود خصوصية في خصوص هذا المقام في نظر، أوجبت المطلوبية بهذا النحو من القرب، أعني:

الجزمي دون الرجائي.

و الثاني: أن يكون وجهه و علّته أمرا آخر غير ذلك لا نعلمه، و على الأوّل يسهل الأمر في الناسية للاستبراء و غير المتمكنة.

أمّا الأولى فلوجود ما هو الشرط واقعا فيها، و هو الجزم في القربة إذ مع النسيان يقطع العمل بصورة الجزم.

و أمّا الثانية فلأنّ شرطية الجزم في القربة إنّما هي مقيّدة بحال التمكّن من تحصيله، و أمّا مع عدم التمكن فالرجاء كاف بالاتفاق، حتى من القائل باعتبار الجزم في العبادة، فتدبر.

هذا كلّه بحسب التصوّر و أمّا بحسب مقام الإثبات فلا يبعد أن يقال: إنّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 117

الظاهر كون الشرط هو الإحراز، و إطلاق المادة مثبتة للشرطية حتى في حالي النسيان و عدم التمكّن، كما تقدّم و لكن نرفعها بحديث الرفع.

الاحتمال الرابع في الأخبار: هو الوجوب المولوي الطريقي

بأن يكون الشارع غير رافع اليد عن الواقع، بل يريد من المكلّف الواقع على ما هو عليه، يعني إن كانت هذه المرأة حائضا فلم يرفع اليد عن اعمال وظيفة الحائض، و إن كانت طاهرة فلم يرفع اليد عمّا هو وظيفتها، و هذا نظير سائر الوجوبات الطريقية المقرّرة في الشريعة، التي يكون المطلوب فيها طريقيّتها إلى الواقع، و استكشاف الواقع بها لما رآه من كونها غالب المطابقة معه، مثل الأمر بالتعبّد بخبر الواحد،

و الأمر بعدم نقض اليقين بالشك، و الأمر بتصديق العادل و غيرها، و من لوازم الوجوب الطريقي استحقاق العقوبة على مخالفته في تقدير واحد، و هو صورة المطابقة مع الواقع دون الاستحقاق مطلقا و في جميع التقادير حتى في صورة المخالفة، و بهذا يمتاز عن الوجوب النفسي و المقدّمي، حيث يترتب استحقاق العقوبة على مخالفة الأوّل مطلقا، و لا يترتّب على مخالفة الثاني عقوبة أصلا، و إن قلنا بأنّها تورث الاستحقاق على مخالفة ذي المقدمة.

و الحاصل أنّ حال الاستبراء في حقّ المرأة الشاكّة حال وجوب الفحص الذي يحكم به العقل في الشبهات الحكمية، حيث لا يجوّز اعمال الأصول بمجرّد عروض الشك، بل يلزم الإنسان بالفحص لئلّا يفوت عنه الواقع على تقدير وجوده بمحلّ وصول يد المكلّف إليه لو تفحّص عنه، فهنا أيضا أوجب الشرع الاستبراء لاستكشاف الحال من الحائضية و الطاهرية لئلّا يفوت عنها الواقع،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 118

فيجوز لها إدراكه بطريق آخر غير الاستبراء، مثل الاحتياط، فانّ الغرض الأصلي هو إدراكه، كما يجوز في الشبهات الحكمية ترك الفحص و الأخذ بالاحتياط، و لا يستفاد بناء على هذا الوجه الشرطية من هذه الأخبار، فيكون الصحة في حقّ الناسية و غير المتمكّنة على القاعدة لو انكشفت البراءة، و الظاهر انّ هذا أظهر من الاحتمالات السابقة، فإنّ قوله: «فإن خرجت نقية اغتسلت» في غاية الظهور في أنّ الشرط نفس النقاوة دون إحرازها، و انّ المقصود من الاستبراء استعلام حال الواقع.

فإن قلت: نعم و لكن خلاف ظاهر قوله: «إذا أرادت الحائض أن تغتسل فلتستدخل» حيث تقدّم ظهوره في الشرطية.

قلت: الغالب في النساء انّه متى انقطع الدم في الظاهر يرتّبن أحكام الطاهر، و لا يتنبّهن لاحتمال بقاء

الدم في الباطن فيشتغلن بالغسل بمجرّد ذلك، فقوله: «إذا أرادت الحائض» بمنزلة قوله: «إذا حصل الشبهة بواسطة الانقطاع في الظاهر وجب استعلام الحال و العمل بالواقع على ما هو عليه» فعبّر عن صورة الاشتباه بما صار الغالب عنده مع عدم التفطّن له من إرادة الغسل، إذ قلّما ينفك إرادتهن الغسل عقيب الانقطاع عن الاشتباه المزبور، و يجتمع مع القطع بنقاء الباطن.

بقي الكلام في أنّ ما وجه ما ذهب إليه الفقهاء من الحكم ببطلان الغسل، مع وقوعه بدون الاستبراء مع التنبّه و لو انكشف كونه في حال البراءة؟ و يمكن أن يكون مبناه ما ذهبوا إليه من اعتبار الجزم في القربة في العبادة، و عدم كفاية القربة الرجائية مع التمكّن من الجزم، و على هذا لا مجرى للاستصحاب، إذ مع الوجوب الطريقي لا محل للأصول العملية للورود أو الحكومة على المقرّر في محله، و لكن في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 119

مورد انتفاء هذا الوجوب كما في المرأة العمياء الفاقدة للمرشد، حيث لا يعقل تكليف غير القادر لا مانع من إجراء الأصل. هذا في غير القادرة، و أمّا في الناسية فهي داخلة تحت عموم الخطاب بالاستبراء، إذ قد قرر في محلّه عدم المانع من توجيه الخطاب نحو الناسي.

نعم لا يعقل توجيهه بهذا العنوان، و إذن فالأصل غير جار في حقّها كالذاكرة، و لا بدّ من التكلّم في هذا الأصل انّه هل هو استصحاب الحيضية أو عدمها.

فنقول: فرع شيخنا المرتضى ذلك على القول بأنّ الأمور التدريجية، مثل الماء الخارج عن المادّة شيئا فشيئا و مثل المشي و الحركة، هل هي قارّة و أمر واحد مستمر، أو هي في كل زمان وجود مستقل غيره في الزمان الآخر،

فإن قلنا بالأوّل فالحالة السابقة هو الوجود و إلّا فهو العدم كما هو واضح.

و الحق أن يقال: إنّ الاستصحاب في المقام يقتضي الحكم بالحيضية مطلقا، و على كلا القولين: أمّا على الأوّل كما هو الحق فواضح.

و أمّا على الثاني فلاستصحاب أحكام الحيض الثابتة قبل الشك، و أمّا دعوى أنّه مسبب عن الشك في وجود الدم، و المفروض أنّ الأصل في طرفه يقتضي العدم فمدخولة بانّا لا نسلّم تسبّبه عن خصوص ذلك، بل عن أحد أمرين إمّا هو و إمّا النقاء المتخلّل، إذ هو أيضا سبب للحكم بالحيضية و ملحق بالدم، فأصالة عدم الدم لا ينفع إلّا لرفع الحيضية المسببة عنه، و لا يرفع الحيضية المسببة عن الأمر الآخر إلّا بالتلازم العقلي، إذ الدم إذا كان معدوما إلى آخر العشرة، فلازمه العقلي عدم النقاء المتخلّل فإنّه يحتاج إلى دمين في طرفيه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 120

فإن قلت: إنّا نجري الأصل في هذا السبب كما أجريناه في السبب الآخر، و يصير الأصل الحكمي محكوما لكليهما، و ذلك لأنّ النقاء المتخلّل أمر حادث يحتاج إلى احتفاف نقاء بدمين، فالأصل عدم تحقّق هذا الأمر الحادث.

قلت: هذا الأصل غير جار لعدم إحراز الموضوع فيه، فيبقى الأصل الحكمي سليما، و وجه عدم الإحراز انّه يمكن تعلّق الحكم بهذا الموضوع على نحوين:

الأوّل: وجود النقاء المتخلّل على نحو مفاد كان التامة، و اعتبر الموضوع معروضا للوجود، و هذا يصح استصحابه عند الشك في تحقّق كل من النقاء و وصف تخلّله، إذ تحقّقه يتوقّف على تحقّق كلا الأمرين فالشك في كل منهما يكفي لاستصحاب عدمه.

و الثاني: تخلّل النقاء على نحو مفاد كان الناقصة: بأن لوحظ النقاء بعناية الوجود فيصير معروضا لحالتي التخلّل و

عدمه، فترتّب الحكم على حالة تخلّله، و هذا لا يصح استصحابه إلّا مع إحراز أصل النقاء متّصفا بأحد الحالين في السابق، ثمّ الشك في بقاء تلك الحال في اللاحق، و أمّا مع الشك في أصل وجوده فلا يمكن استصحاب عدم التخلّل الثابت قبل وجود النقاء، لأنّ المفروض أنّ الموضوع أخذ على نحو كان الناقصة و عدمه هو مفاد ليس الناقصة، مع عناية الوجود في الموضوع لا هي مجردا عن هذه العناية، و المقطوع السابق هنا هو الثاني و هو غير موضوع، و الأوّل الذي هو الموضوع ليس له حالة سابقة لا عدمية و لا وجودية، إذ صيرورته ذا حالة سابقة إنّما هي بعد وجود أصل النقاء. و أمّا عدم كلا الحالين بعدم معروضهما فليس بموضوع رتب الأثر عليه شرعا، و حيث إنّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 121

الدليل في مسألة إلحاق النقاء المتخلّل ليس لفظيا حتى يستظهر منه أحد الوجهين، و إنّما هو الإجماع على أنّ أقل الطهر العشرة يبقى الأمر متردّدا بينهما، و معه لا يصح الاستصحاب لعدم إحراز الموضوع. و حيث إنّ توضيح الحال يحتاج إلى بسط المقال مضافا إلى كون المسألة من المهمّات التي يتفرّع عليها فروع كثيرة في الفقه لا بأس بالتكلّم فيها.

توضيح مسألة أصولية

فنقول: اعلم أنّ شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- ذكر في الرسائل عند بيان اشتراط بقاء الموضوع في الاستصحاب كلاما حاصله: أنّ إحراز وجود الموضوع في الخارج شرط في الآثار التي موضوعها الوجود، و ليس بشرط في الآثار التي موضوعها الماهية، مثلا لو أريد استصحاب حياة زيد فهو صحيح مع الشك في وجوده، و أمّا لو أريد استصحاب قيامه فهو لا يصحّ إلّا مع إحراز وجوده.

و ذكر بعض الأساتيذ-

قدّس سرّه- في تعليقته هنا ما حاصله: أنّ المراد ببقاء الموضوع المعتبر في الباب هو إثبات الحكم في القضية المشكوكة، لعين ما ثبت له في المتيقّنة، بمعنى أنّ المتيقّن لو كان قيام زيد، فلا يثبت بالاستصحاب القيام لعمرو بل اثبت لموضوع نفسه و هو زيد، و أمّا إحراز وجود زيد فليس من بقاء الموضوع المعتبر، فمع الشك في وجوده أيضا يصحّ استصحاب القيام إذ بالاستصحاب لم يثبت القيام إلّا لزيد، و جعل هذا توضيحا لمرام الشيخ و ذكر أنّ الداعي إلى ذكره اشتباه بعض الطلبة و فهمه من العبارة خلاف المراد، فكأنّه فرض المطلب من الواضحات في الغاية، حتى رأى نسبة الخلاف إلى الشيخ جسارة بالنسبة إليه فجعله شرحا لمرامه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 122

أقول: هذا كلامه- قدّس سرّه- في الموجبة و من المعلوم جريانه في السالبة أيضا، بل قد يقال: إنّه فيها بطريق أولى فإنّ السالبة لا تحتاج إلى وجود الموضوع أصلا، و منشأه جعل السالبة في تمام المقامات بمعنى واحد، فقولنا: زيد ليس بقائم عند عدم وجود زيد و عند وجوده و عدم قيامه، يكون بمعنى و لا يختلف السلب حسب اختلافهما، و هذا أيضا هو الظاهر من المنطقيين حيث ذكروا أنّه لا بدّ في الموجبة من وجود الموضوع يعني لا يعتبر في السالبة، و ذكروا أيضا أنّ موضوع الموجبة أعمّ من موضوع السالبة، و الحق خلاف ما ذكره في كلا المقامين، أعني: في الموجبة و السالبة، امّا في السالبة فلأنّا إذا راجعنا الوجدان نرى معنيين مختلفين للسلب، و نرى السلب بعناية الوجود في الموضوع غير السلب بدونها كما يعلم بالمراجعة، و حينئذ فنقول: إذا قال المتكلّم: إذا كان زيد قائما صل

ركعتين فهو لا حظ وجود زيد بالمعنى الحرفي، و رأى له بهذه الملاحظة حالين: أحدهما القيام و الآخر عدمه، فجعل لكل منهما حكما، فالموضوع إنّما هو هاتان الحالتان المنوطتان بوجود زيد، و دخل وجوده إنّما هو عقلي حيث لا يعقل القيام و عدمه الربطيّان بدونه، و المتكلّم ساكت عن تقدير عدم زيد و غير متعرض له فهاهنا دعويان:

الأولى: أنّه لو شك بعد وجود زيد و اتصافه بإحدى الحالتين، في اتصافه بإحديهما لأجل الشك في أصل بقاء زيد، فلا يجوز استصحاب شي ء من وجوده و من وجود حالته المعلومة في السابق.

أمّا الأوّل: فلأنّه ليس بموضوع رتّب عليه الأثر، إذ قد عرفت ملاحظته بالمعنى الحرفي. نعم لو كان ملحوظا بالمعنى الاسمي، كما لو قال زيد إن وجد و قام

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 123

كان دخيلا شرعا و صح استصحابه، و لكنّه خلاف الفرض. نعم هذا الاستصحاب من أثره عقلا وجود التفصيل بين القيام و القعود.

و أمّا الثاني: فلأنّ الحالة السابقة إن كان هو القيام، فإمّا أن يستصحب القيام النفسي أعني: ما هو مفاد كان التامة فهو غير الموضوع، و إمّا أن يستصحب القيام الربطي و هو فرع أن يكون موضوعه و هو وجود زيد محرزا، إذ الوجدان حاكم بانّ القيام الربطي مغاير في المعنى مع النفسي، مثلا تارة نقول: قيام زيد أو ربط القيام بزيد متى تحقق صلّ ركعتين، و تارة نقول: إذا كان زيد قائما صلّ ركعتين، فالأوّل يحتاج إلى زيد و قيام و ربط بينهما، فكل من هذه الثلاثة لم يتحقّق تحقّق عدم ذاك المعنى، و أمّا الثاني فليس له إلّا عدم واحد و هو انتفاء القيام مع وجود زيد، و أمّا عدمه

بانتفاء زيد فغير متصوّر في القضية و لم يتعرّض له أصلا، فهذا المعنى متى أريد استصحابه يحتاج إلى وجود زيد و بدونه لا يتم.

نعم هنا أمر آخر أيضا يصح استصحابه: و هو أنّ هذه القضية، أعني: زيد قائم لم تكن بموجودة، لكن حاله أيضا حال عنوان قيام زيد أو ربط القيام بزيد، حيث إنّه أيضا له حالة سابقة عدمية، و لكن كل ذلك أجنبي عمّا هو الموضوع في المقام و هو القيام الربطي، و من ذلك يعلم الكلام في السلب، حيث عرفت اختلاف المعنى في السوالب المختلفة في عناية الوجود في الموضوع و عدمها.

و الدعوى الأخرى: أنّه لو شك من الابتداء في وجود زيد، فشك من هذه الجهة في قيامه و عدم قيامه، لا يصح الاستصحاب أيضا لا في عدم نفسه و لا في عدم قيامه.

أمّا الأوّل: فلما عرفت من أنّ وجوده غير ذي أثر شرعا، و إنّما العقل يرتّب

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 124

عليه الأثر المجعول شرعا، بمعنى أنّه إذا قال الشارع: زيد إن قام صلّ ركعتين، و إن لم يقم فلا يجب صلاة ركعتين، فالشرع و إن لم يلاحظ وجود زيد على نحو يصح الحكم عليه و لا به، و لكن العقل يحكم بأنّ وجود زيد موجب لحصول التفصيل المذكور، و عدمه موجب لعدم هذا التفصيل، و أمّا مع عدمه فهل الحكم هو الإثبات مطلقا، أو النفي مطلقا، أو في البين تفصيل آخر فغير معلوم، و إنّما الموضوع الذي رتّب عليه الشارع الأثر هو الحالة القيامية و حالة عدم القيام، الملحوظتان في حالة وجود زيد من باب عدم انفكاكهما عن وجوده عقلا، لا من باب دخله في الموضوع شرعا، مع أنّه

لو قلنا بجريان الاستصحاب لهذا الأثر العقلي فليس بنافع في المقام، لما أشرنا إليه من عدم معلومية الحال عند عدم وجود زيد، لا معلومية عدم الحكم و إنّما المعلوم عدم التفصيل.

و أمّا الثاني: بأن نستصحب عدم القيام الربطي دون النفسي، حيث إنّه كان منعدما عند انعدام الموضوع، فلأنّ هذا العدم له شق ثالث نظير العمى و البصر إذا فرضا في موضوع خاص مثل الإنسان، فانّ العمى بمعنى عدم البصر، فإذا قلت: لا عمى في هذه الدار، فهو يناسب لأن لا يكون فيها إنسان أصلا، و لأن يكون فيها إنسان و لكن كان واجد البصر، فهاهنا أيضا لوحظ القيام و عدمه في تقدير حفظ وجود زيد، فعدم عدم القيام بهذا المعنى له شقّان: أحدهما: وجود التقدير مع وجود القيام، و الثاني: عدم أصل التقدير، و الذي يكون مقابلا هو قيام زيد مع عدم القيام في لحاظ حفظ التقدير، و أمّا عدم التقدير فمقابل لوجود التقدير و كلاهما خارجان عن تحت الحكم الشرعي، و إنّما أثر الأوّل عدم الحالين و أثر الثاني وجود أحدهما بحسب العقل، فثبت أنّ استصحاب عدم عدم القيام لا فائدة فيه

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 125

إذ هو يتحقّق بعدم التقدير، و هو غير الموضوع الذي رتّب عليه الأثر شرعا، و على تقدير الاستصحاب للأثر العقلي و هو ارتفاع التفصيل عن البين لا ينفع، إذ يبقى الأمر مردّدا بين الإثبات المطلق و النفي كذلك و التفصيل بنحو آخر.

و الحاصل أنّ الوجود و العدم المطلقين لا ثالث لهما، فلا جرم كل منهما وقع موردا لحكم وقع الآخر موردا لنفيه. فالشارع و إن لم يصرّح بكلا الطرفين لكن تصريحه في أحدهما يكون بمنزلة الترتيب

في الآخر، و أمّا الوجود و العدم الملحوظان في تقدير وجود أمر آخر، فلهما شق ثالث هو عدم التقدير و هو خارج عن ترتيب الشرع، بل لم يلحظه الشرع و سكت عنه و لم يحكم فيه بنفي و لا إثبات، و حاله حال سائر الموضوعات الأجنبية عن هذا الموضوع، حيث إنّه ساكت عن حالها في هذا الحكم، فاستصحاب وجود التقدير أو عدمه غير مربوط بهذا الحكم.

فتحصّل من جميع ما ذكر أنّ هذا الاستصحاب، أعني: استصحاب عدم النقاء المتخلّل غير جار في المقام، و استصحاب عدم الدم فقد عرفت عدم حكومته وحده على استصحاب الحكم، فيبقى استصحاب الحكم سليما عن الحاكم. هذا كلّه على فرض القول في الأمور التدريجية بعدم الاتحاد و البقاء على ما هو خلاف التحقيق، و إلّا فالتحقيق هو البقاء و معه لا كلام في جريان الاستصحاب في طرف الحيضية دون الطهرية.

ثمّ إنّ بعض الأساتيذ ذكر في بعض تحقيقاته مثل ما ذكر: من عدم ابتناء استصحاب الحيض على القولين في التدريجيات، بل لو قلنا بعدم البقاء فيها كان مقتضاه أيضا هو الحيضية و لكنّه قرّره على نحو آخر.

و حاصله: أنّ ما هو موضوع الأحكام إنّما هو الحدث دون الدم، و الدليل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 126

عليه أنّها ثابتة في حال عدم الدم، كما في النقاء المتخلّل، و لا شك أنّ الحدث أمر واحد قابل للاستمرار بلا كلام، و إن كان الدم غير قابل له فالاستصحاب جار فيه مطلقا.

و فيه أوّلا: أنّا لا نسلّم كون الموضوع هو الحدث و لا الدم، بل نقول: إنّه شيئان الدم و النقاء المتخلّل.

و ثانيا: نقول: يرد عليه أيضا ما ورد على استصحاب الحكم من المحكومية، فإنّ

الشك في بقاء الحدث مسبب عن الشك في تحقّق محصّله و هو أحد الأمرين، فإذا كان الاستصحاب عدمهما كان حاكما على استصحاب الحدث، فيحتاج إلى الجواب الذي ذكرنا.

و الحاصل أنّه أيضا مشترك مع الاستصحاب الحكمي في الإشكال، و الجواب أيضا و إن كان واحدا لكن المقصود انّه ليس بحيث لم يكن الاشكال جاريا فيه رأسا، هذا كلّه هو الكلام في غير المتمكنة من الاستبراء.

و أمّا الناسية له فلها حالات ثلاث:

الأولى: أن ينكشف بعد الالتفات الوفاق، و كون أعمالها واقعة في حال الطهر، و لا إشكال حينئذ على ما استظهرناه من استفادة الوجوب الطريقي و عدم الشرطية.

و الثانية: أن ينكشف بعده الخلاف، و هذا أيضا لا كلام في الحكم ببطلان الأعمال المشروطة بالطهارة الصادرة منها في زمان الطهر، و وجوب قضاء الصوم الصادر منها فيه، و في زمان الحيض ناسيا للاستبراء.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 127

و الثالثة: أن لا ينكشف بعده شي ء من الأمرين، بل تبقى على حالة الترديد و الشك، و المهم هنا بيان الحال في هذا القسم، و لا إشكال أيضا في العبادة الصادرة منها التي لا قضاء لها مثل الصلاة، و إنّما الشك في قضاء الصوم، فإنّها لو كانت طاهرة حال الغسل كان جميع ما وقع عقيبه صحيحا، و لو كانت حائضا حاله كان باطلا، و عليها قضاء الصيام الواجب عليه زمان الحيض، و مطلق العبادات بعده إلى زمان الالتفات، و عروض هذا الشك.

و التحقيق انّ الاستصحاب حينئذ لا مانع في حقّها و إن كان محكوما في الزمان المتقدّم، أعني: زمان الغسل لمكان التكليف الاستبرائي الثابت في ذلك الزمان الحاكم على الاستصحاب، و لكنّه لا مانع من جريانه في الزمان المتأخّر الذي هو زمان الالتفات و عروض

الشك المزبور، بأن نستصحب في هذا الزمان المتأخّر وجود الدم في الباطن الثابت في حال القطع بالحيضية، من الزمان المتقدّم إلى حال الشك منه على ما هو التحقيق، أو نستصحب الأحكام على خلافه ليتفرّع عليه بطلان الغسل و فساد الصوم الواقع بعد ذلك في أيام الحيض، و مطلق العبادة الواقعة في أيام الطهر لو كانت، ليكون أثره الفعلي إتيان الغسل في الحال و قضاء جميع ذلك، و لا يتصوّر مانع من هذا الاستصحاب، فإنّ وجود الحاكم له في الزمان المتقدّم و هو زمان وجود المشكوك، لا يضرّ به في الزمان المتأخّر بعد فرض تمامية أركانه، و وجود الأثر الفعلي له في هذا الحال كما هو المفروض.

و الحاصل أنّ المعتبر في الاستصحاب وجود معلوم و وجود مشكوك و كون الأوّل سابقا على الثاني، و لا يعتبر التقدّم و التأخّر في نفس القطع و الشك، فلو وجدا دفعة و كان متعلّق القطع سابقا على متعلّق الشك كفى، كما في مقامنا حيث عرض

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 128

للمرأة في الزمان المتأخّر قطع و شك دفعة، بالنسبة إلى وجود الدم في قطعتين من الزمان المتقدّم، و متعلّق القطع وجوده في القطعة السابقة، و متعلّق الشك وجوده في اللاحقة.

و حينئذ فإن لم يكن مانع عن الاستصحاب في حال تحقّق الوجود المشكوك:

بأن يكون أركانه من القطع و الشك موجودة، و كان له أثر شرعي و لم يكن له حاكم فهو، و أمّا إن لم يجر إمّا من جهة عدم تمامية الأركان، أو عدم الأثر، أو وجود الحاكم ثمّ تمت هذه الشرائط في المستقبل، فلا مانع من جريانه في المستقبل لوفاء عموم «لا تنقض» لشمول هذا المورد، مثلا لو كان

المكلّف قاطعا بكونه محدثا، ثمّ غفل و دخل في الصلاة غافلا، و بعد الفراغ منها رفع غفلته و عرض له حالة الترديد في الإتيان بالوضوء قبل الصلاة و عدمه، فإنّه و إن كان في الحال المتقدّم، أعني: بين الصلاة و القطع بالمحدثية، لم يكن الاستصحاب مشروعا في حقّه، لأنّ دليله متوجه إلى من كان شاكّا بعد ما كان قاطعا، و المفروض انّه في تلك الحال كان غافلا و لم يكن في نفسه حالة الترديد و الشك، فلم تكن الأركان في حقّه تامّة و لكن لا مانع من هذا الاستصحاب بعد الفراغ من الصلاة، لكون الأركان حينئذ تامة لحصول الشك مع وجود الأثر المبتلى به الفعلي، ففي المقام أيضا و إن لم تكن المرأة في الحال المتقدّم مشروعا في حقّها الاستصحاب، مع كونها شاكة لأجل وجود الحاكم، و لكن لا مانع منه في المتأخّر بعد ارتفاع الحاكم و وجود الأثر الفعلي هذا.

ثمّ مع قطع النظر عن الاستصحاب، فحكم المرأة المزبورة بحسب العقل ما ذا؟ فهل هو الاحتياط أو البراءة؟ فإنّها عالمة إمّا بوجوب القضاء إمّا في هذا الزمان، و إمّا وجوب الأداء في الزمان الماضي، لأنّها إن كانت حائضا حال الغسل

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 129

كانت مكلّفة بقضاء الصوم في المستقبل، و إن كانت طاهرة كانت مكلّفة بأدائه في ذلك الزمان، و عليه هذا التقدير تقطع بعدم التكليف في الحال، إذ المفروض أنّها أتت بالأداء مع شرط صحته، و هذه المسألة جزئي من جزئيات كبرى، و هي أنّ موضوع حكم العقل بوجوب القطع بالفراغ بعد القطع بالشغل، هل هو القطع التفصيلي بالشغل في خصوص زمان حصول نفس هذا القطع، أو يكفي القطع بالشغل و

لو بعد ضم القطعة الحاضرة من الزمان إلى القطعة السابقة؟ بحيث لو لوحظ القطعة الحاضرة فقط لم يكن هناك علم بالتكليف بل كان مشكوكا؟

و لا شك أنّ هذا أمر يكون تعيينه بيد العقل، و لا بدّ من السؤال عنه و العرض عليه.

فنقول: لا يبعد أن يقال: إنّ الموضوع هو الثاني، أعني: الأعم، و الشاهد على هذا وجود الحكم القطعي من الوجدان بوجوب الاحتياط، في مثل ما إذا فرض وجود واجب توصّلي موسع وقته واقعا، كما أوجب المولى على عبده الذهاب إلى دار زيد ممتدا وقته من أوّل الظهر إلى الغروب، و لكن لم يطّلع على ذلك العبد في أوّل الظهر، و هكذا إلى أن يبقى من الوقت مقدار يسع الذهاب فالتفت حينئذ إلى ذلك التكليف، و لكنّه احتمل أن يكون قد ذهب إلى دار زيد في أحد من الأجزاء السابقة للوقت، فيكون الأمر المذكور ساقطا عنه، لأنّ الأوامر التوصلية تسقط بالإتيان بمتعلّقها في حال الغفلة عنها أيضا، فإنّ هذا الشخص إذا نظر إلى مجموع أجزاء الوقت، يقطع بثبوت التكليف المزبور بالنسبة إليه في هذا المجموع، و أمّا إذا نظر إلى خصوص الزمان الحاضر كان شاكّا، لاحتمال السقوط بالإتيان في الأجزاء السابقة، و لا خفاء في أنّ حكم العقل في هذا المثال، لزوم المبادرة إلى الامتثال، و عدم التقاعد عنه بمجرّد الاحتمال المزبور.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 130

فنقول: في ما نحن فيه أيضا لو قطع النظر عن الزمان المتقدّم، و نظر إلى الزمان الحاضر فقط، فليس هنا علم بثبوت الخطاب لاحتمال وقوع الأداء في محلّه بشرطه، و لكن إذا ضم إليه الزمان المتقدّم حصل العلم بثبوت خطاب من الشرع في هذا المجموع، و إن كان

الشك في متعلّقه أنّه القضاء في هذا الزمان أو الأداء في الزمان المتأخّر.

لا يقال: فعلى هذا لا بدّ من الحكم بالاجتناب عن الإناء الموجود إذا حصل العلم الإجمالي بنجاسته، أو إناء آخر مفقود بعد فقد الإناء الآخر، لأنّه لا علم له بثبوت التكليف في خصوص زمان حصول العلم، و إن كان له علم بثبوته في المجموع منه و من الماضي.

لأنّا نقول: هذا النقض في غير محلّه، لأنّا إذا وجدنا أنّ حكم العقل في الكبرى المزبورة بالاجتناب، نحكم به في جميع جزئياتها. فنقول إذن بوجوب الامتثال في مثال الإناء و لا يلزم منه محذور، إذ ليس مسألة تعبدية بل عقلية و العقل حاكم بوجوبه كما عرفت.

ثمّ إنّه لا فائدة للاستبراء في ما إذا علمت برجوع الدم قبل العشرة، فإنّه لو كان نقاء في البين كان نقاء متخلّلا و ملحقا بالدم، و لا إشكال في ذلك في صورة حصول العلم، كما أنّه لا إشكال في عدم سقوط الاستبراء بمجرّد الظن بالعود لعدم كونه حجّة، و إنّما الكلام في ما إذا حصل الظن الاطمئناني به، فهل هو حجّة حتى يكون كالعلم؟ أو لا حتّى يكون كمجرّد الظن؟ و تحقيق ذلك يبتني على تحقيق حجية الاطمئنان بطريق الكلية، و في جميع المقامات من تشخيص الموضوعات الشخصية و غيرها.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 131

فنقول: بناء العقلاء على عدم الاعتناء بالاحتمال الذي في قبال الاطمئنان، لا نعني به العلم العادي الذي يكون خلافه خرقا للعادة، مثل العلم بعدم سقوط السقف مع أنّه غير ممتنع عقلا، بل بمعنى أن يكون الخلاف محتملا أيضا بحسب العادة، و لكن كان في الضعف بحيث لا يساعد العقلاء من اتبعه.

و حينئذ فيمكن أن يقال: إنّ

بقاء هذه الحجيّة لا يحتاج إلى تنصيص من الشرع، بل هو حجة حتى يرد من الشرع في مقام نص على عدم كفايته و لزوم العلم، فيقتصر في ذلك على ذلك المقام كما في مقام العلم بالنجاسة، حيث قال:

حتى ترى في منقاره دما، و كما في مقام الشهادة «على مثل هذا فاشهد أو دع»، فيكون هذا برزخا بين العلم و الظن: من حيث إنّ العلم غير قابل للجعل في شي ء من طرفي الإثبات و النفي، و الظن قابل له في كليهما، و هذا قابل له في الثاني دون الأوّل.

فإن قلت: ما المخصّص لعموم أدلّة حرمة العمل بالظن، و النهي عن اقتفاء غير العلم بالنسبة إلى هذا مع كونه ظنّا و غير علم.

قلت: أمّا أدلّة حرمة العمل بالظن فهي منصرفة إلى الظنون الغير الاطمئنانية عرفا، و أمّا النهي المذكور فالاطمئنان و إن كان بحسب اللفظ داخلا في موضوعه لصدق غير العلم عليه، إلّا أنّه غير شامل له بحسب الملاك، إذ نعلم أنّ الملاك الذي يكون في العلم، و بلحاظه خص النهي بغيره موجود في الاطمئنان، و هو سكون النفس و خروجه عن التزلزل و الاضطراب.

ثمّ إنّ الأخبار مختلفة في كيفية الاستبراء، ففي بعضها و هو خبر صحيح ذكر مطلق إدخال القطنة، و في بعض آخر تقييده برفع الرجل، و في ثالث تقييده بذلك

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 132

مع زيادة تقييد الرجل باليمنى، و في رابع مع زيادة تقييدها باليسرى، و قد يقال:

إنّه إذا تعارض الأخيران في تعيين الخصوصية، يبقى المقيّد بالنسبة إلى مطلق رفع الرجل سليما، فيتعيّن تقييد المطلق به، و لكنّه مخدوش بأنّ سياق الخبر المطلق يشهد بكونه بصدد البيان، و من البعيد عدم

ذكر القيد مع ذلك، و المقيّد أيضا لا صراحة له و لا ظهور في وجوب الكيفية، لاحتمال كونه بالنسبة إليها مسوقا للإرشاد إلى ما يكون أسهل و أقرب إلى تحصيل العلم بالحال، مع عدم وجوب في سوى نفس الاستدخال، و من المعلوم أنّ من شرط التقييد كون المقيد ظاهرا في الإلزام بالنسبة إلى خصوص القيد.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 133

[الفصل الثالث في مسائل الاستمرار و التجاوز عن العشرة]

فصل في مسائل الاستمرار و التجاوز عن العشرة إذا جاوز دم المرأة عن العشرة، فذات العادة تجعل عادتها حيضا و الباقي استحاضة، و هذا الحكم في الجملة ممّا لا إشكال فيه، و القدر المتيقّن منه ما إذا كان الدم في تمام الشهر بصفة واحدة، أمّا الحمرة، أو الصفرة، أو كان في البين اختلاف في اللون و لكن كان مطابقا مع العادة: بأن كان ما في العادة واجدا لصفة الحيض، و غيره واجدا لصفة الاستحاضة.

و إنّما الكلام في ما إذا كان في البين تميّز و لكن خالف مع العادة، سواء كان الجمع بين حيضية ما في العادة و واجد التميّز ممكنا: بأن احتواهما عشرة واجدة أو كان بينهما عشرة فاقدة، أم لم يمكن كصورة فقد هذين الوصفين: بأن اشتمل عليهما عشرتان مثلا و لم يفصل بينهما عشرة، فحينئذ لا إشكال أنّ مقتضى دليل اعتبار العادة بإطلاقه يشمل المقام، و كذلك دليل اعتبار التميّز.

و بعبارة أخرى دليل العادة لسانه لزوم الرجوع في حال الاستمرار إلى العادة مع وجودها، و دليل التميّز لسانه لزوم الرجوع إليه في تلك الحال مع وجدانه، و بين ذينك عموم و خصوص من وجه، إذ للعادة و التميّز مورد اجتماع و لكلّ منهما مادّة افتراق، فيشكل الحال في مورد اجتماعهما.

كتاب الطهارة (للأراكي)،

ج 2، ص: 134

فذهب قوم إلى تقديم العادة و هم المشهور المعظم. و آخرون إلى تقديم الصفة. و ثالث إلى التخيير، فتختار أيّهما شاءت، و ربما ينتصر لمذهب المشهور من تعيّن تقديم العادة بقوله في مرسلة يونس الطويلة: «و لو كانت تعرف أيامها ما احتاجت إلى معرفة لون الدم» و هو غير مفيد لأنّ عدم الاحتياج ليس بصريح في عدم الأمارية في عرض العادة، و كون التميّز لغوا مع وجودها، بل أمره دائر بين هذا و بين أن يكون التميّز أيضا أمارة، و لكن حيث إنّ تشخيص الصفة يحتاج إلى ملاحظة لون الدم في جميع الشهر، ثمّ رعاية وجود السواد في أي موضع، ثمّ مراعاة مراتب الشدة و الضعف بين الدماء السود، و هذا أمر صعب و هذا بخلاف الرجوع إلى العادة حيث إنّه في غاية السهولة، فلهذا قال- عليه السّلام-: إنّه مع وجود العادة التي هي الطريق السهل، لا حاجة إلى اختيار الطريق الآخر الصعب، و كذلك لا شاهد لهذا القول في ما في هذه المرسلة أيضا: من قوله «تدع ما سواه» لأنّ هذا بيان لسان أماريته، فإنّ معنى أماريته أنّ ما في العادة حيضا دون غيره، كما أنّ لسان التميّز أيضا هو أنّ واجده حيض دون فاقده.

و بالجملة هذا حكم حيثي فلا نظر له إلى وجود امرأة أخرى و عدمها.

و الحق هو المذهب المشهور من تقديم العادة، و ذلك لدلالة فقرأت من الرواية من حيث المجموع عليه:

إحداها: قوله- عليه السّلام-: «الصفرة و الكدرة في أيام الحيض حيض».

و الثانية: قوله- عليه السّلام- بعد الحكم بحيضية ما في العادة، و عدم حيضية الزائد و سؤال السائل و إن سال؟ قال- عليه السّلام-: «و إن سال

مثل المثعب». وجه الدلالة أنّ الظاهر كون المراد بهذا السيلان، هو كثرة الدم التي عبّر عنها في كلام

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 135

النبيّ صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم «بإقبال الدم» فيكون من صفات الحيض.

فإن قلت: هذا ليس صريحا في المدّعى، لإمكان وجود السيلان في أيام العادة أيضا، فلم يكن في الدم اختلاف و الحكم بمقتضى العادة قد عرفت انّه ممّا لا إشكال فيه في هذه الصورة.

قلت: يتم المطلوب و تحصل الصراحة بضميمة الفقرة السابقة إلى هذه، و هي قوله: «الصفرة و الكدرة إلخ»، فبعد الانضمام يصير المعنى أنّه لو كان الدم في أيّام العادة فاقدا كان محكوما بالحيضية، و بعدها لا يحكم بالحيضية و إن كان الدم في ما بعد متصفا بصفة الحيض، و هذا صريح في صورة اختلاف الدم صفة.

فإن قلت: هب و لكن الحكم بتقديم العادة مع ذلك غير مثمر لما ذكرته سابقا، من أنّ هذا بيان لسان حجيته و أماريته، فهو في حدّ ذاته مقتض لحيضية أيام العادة دون غيرها، حتى في صورة الاختلاف في الدم و اقتضائه خلاف ذلك.

قلت: إذا أخذ في دليل حجية الأمارة وجود أمارة أخرى على خلافها، إمّا على وجه الإطلاق أو التقييد، فلا يعقل مع ذلك كون الأمارة الأخرى في عرض الأولى، إذ معنى كونهما في عرض واحد أنّ دليل حجية هذا غير متعرّض لذاك، و لا دليل حجية ذلك متعرّض لهذا، و أمّا لو فرض التعرّض و النظر في دليل إحديهما بالنسبة إلى الأخرى، فهذا يكشف عن كون الأولى مقدمة رتبة على الثانية، و أنّ الثانية غير مجعولة في رتبة وجود الأولى فافهم.

ثمّ إنّ القدر المتيقّن من العادة التي حكم بتقدّمها على

التميّز عند التخالف، إنّما هي الحاصلة من التساوي في الأخذ و الانقطاع سواء كان الحكم بالحيضية، بالعلم الوجداني أم بقاعدة الإمكان، و إنّما الإشكال في الحاصلة من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 136

التميّز أنّها هل تقدّم على نفس التميّز عند التخالف أو لا؟ بمعنى أنّه لو تساوى الأيام الواجدة للتميّز من الشهر الأوّل و الثاني عددا و وقتا، كما لو اتّفق سواد لون الدم في الخمسة الأولى من الأوّل و صفرة البقية، و اتفق كذلك من الشهر الثاني ثمّ امتد الاستمرار إلى الشهر الثالث فانعكس الأمر، مثلا: بأن حصل الصفرة في الخمسة الأولى و السواد في الخمسة الثانية ثمّ تبدّل بالصفرة إلى آخر الشهر، حيث إنّ مقتضى التميّز في هذا الشهر الثالث حيضية الخمسة الثانية، و مقتضى العادة الحاصلة من تساوي الدمين المتواليين في شهرين، المحكوم بحيضيتهما من جهة التميّز حيضية الخمسة الأولى، فهل تقدّم الأوّل أو الثاني؟ قولان: مال إلى أوّلهما المحقّق الثاني، معلّلا بأنّ العكس مستلزم لزيادة الفرع على الأصل، و نفي عنه البعد سيدنا الطباطبائي- دام ظلّه- في رسالته العملية.

و أقول: وجه الإشكال في تقديم هذه العادة يمكن أن يكون أحدا من أمرين:

الأوّل: الخدشة في دلالة دليل تنزيل التميّز منزلة الحيض الواقعي، و أنّ المتيقّن من هذا التنزيل إنّما هو الآثار الحالية المبتلي بها المرأة: من ترك الصلاة، و الصوم، و حرمة اللبث، و المس و غير ذلك، و أمّا بالنسبة إلى الأثر الآخر الذي هو عبارة عن حصول العادة بتساوي المرتين فلا يعلم، إذ ليس هذا أثرا كان محطّا لنظر المتخاطبين، فانّ الغرض منه استكشاف حال المرأة عند وجود التميّز، و أنّ التكليف الفعلي لها ما ذا فلا ينافي كونه

بصدد مقام البيان، لعدم معلومية شموله لمثل هذا الأثر، إذ لم يعلم كونه بهذا الصدد زيادة على رفع الجهل عمّا هو المحتاج إليه فعلا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 137

و الحاصل أنّه يعتبر في الأخذ بالعموم الآثاري في دليل التنزيل، كالأخذ بالعموم الأحوالي في المطلقات عدم وجود منصرف إليه، و لا قدر متيقّن بحسب مقام التخاطب في البين، ألا ترى أنّ قولنا: «زيد أسد» تنزيل له منزلة الأسد في خصوص الشجاعة دون سائر الصفات، لأنّها المنصرف إليها، و كذلك الحال في كون بعض الآثار قدرا متيقّنا في مقام التخاطب، فإنّه أيضا مانع عن تعميم التنزيل إلى جميع الآثار، و هذا الوجه جار كما ترى في العادة الحاصلة من قاعدة الإمكان، فإنّ الحيضية بسببها أيضا إنّما هي بتنزيل الإمكان منزلة الواقع، فيقتصر على التقدر المتيقّن و هو غير حصول العادة بدفعتين متساويتين، لا سيّما أنّ الدليل هنا لبّي و هو الإجماع، و يلزم الاقتصار على المتيقّن من هذه الجهة أيضا.

و الإنصاف أنّ هذه الخدشة في غير المحل، فإنّ التميّز جعل شرعا أمارة و طريقا للحيضية، و جعل الطريقية و إن كان في اللب راجعا إلى التنزيل أيضا بمعنى تنزيل المؤدّى منزلة الواقع، إلّا أنّ العنوان الأوّلي هو الطريقية، و معنى الطريقية أن يعامل مع المؤدّى كل ما يعامل مع الواقع حين العلم به، فلا حظ الطرق التي هي طرق عند العقلاء ممّا سوى العلم، فهل تراهم إذ بنوا على طريقيّة أمر و قام على وجود موضوع له آثار، يفرّقون و يفكّكون بين آثار هذا الموضوع؟ بل يجعلون حاله حال العلم بحصوله، فالشارع إذا جعل قول العادل حجة و طريقا فالذي يتفاهمه العرف من ذلك، أنّه يعامل

مع ما أوصل إليه هذا الطريق معاملة نفس الواقع مطلقا، بدون تفاوت مع العلم.

نعم يمكن تخصيص الطريقية في مقام الجعل ببعض الآثار، إلّا أنّ هذا أمر لا يدخل في الأذهان، و لا بدّ لتفهيمه من نصب دلالة محكمة و تنصيص مؤكد،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 138

و حيث لم يكن فالطريقية المستفادة من كلامه تنصرف بالطبع إلى الإطلاق، و لهذا تراهم يفرّقون بين الأمارات و الأصول، حيث يأخذون في الأوّل بالآثار العقلية و العادية و ما بتوسطها من الشرعية، و يكتفون في الثانية بالشرعية المرتبة بلا واسطة، مع أنّ الأمر لو كان كما ذكر للزم الاقتصار في الطرق أيضا على ذلك، لأنّه المتيقّن من دليل التنزيل بلا إشكال، و إن كان لحكمهم بذلك في الطرق وجه آخر مقرّر في محله: من انحلال الحكاية إلى حكايات عديدة بعدد اللوازم و الآثار.

و لهذا أيضا لم نر أحدا استشكل في المقام في حصول العادة بقاعدة الإمكان، مع اشتراكها مع التميّز في الخدشة كما عرفت.

و الثاني: الخدشة في دليل حصول العادة بالمرّتين المتساويتين، بعد تسليم عدم الخدشة في عموم دليل تنزيل التميّز بالنسبة إلى جميع الآثار: بأن يقال: إنّ التميّز و إن كان معرّفا للحيض الواقعي بما له من الآثار كالعلم، إلّا أنّ موضوع هذا الأثر الذي هو حصول العادة قصير، و ليس هو تساوي الحيضتين مطلقا، بل المستفاد من أدلّة هذا المقام أنّ المساواة الحاصلة بين الدمين: من حيث الأخذ و الانقطاع الواقعة في غير حال الاستمرار، و اختلاط الحيض بالاستحاضة تصير مرجعا في حال الاستمرار الحاصل في الأزمنة المستقبلة.

و بعبارة أخرى موضوع حصول العادة الحيضتان المتواليتان المتساويتان لكن لا مطلقا، بل خصوص ما إذا حصلتا في الزمان

الّذي خلت المرأة عن استمرار الدم، بحيث لهذه الخصوصية أيضا دخل في الموضوع. بحيث لو قطع المستمرة بحيضيّة عدّة أيام من الشهر الأوّل، و اتفق ذلك في مماثلها من الشهر الثاني لم يحصل الموضوع لهذا الأثر. فافهم.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 139

و الشاهد على ذلك قوله- عليه السّلام- في أوّل المرسلة الطويلة: «أمّا إحدى السنن فالحائض التي لها أيام معلومة قد أحصتها بلا اختلاط عليها، ثمّ استحاضت فاستمر بها الدم» و قوله- عليه السّلام- في أواخرها: «فإن انقطع الدم لوقته من الشهر الأوّل سواء حتى توالى عليها حيضتان أو ثلاث، فقد علم الآن أنّ ذلك قد صار لها وقتا و خلقا معروفا تعمل عليه، و تدع ما سواه و يكون سنّتها في ما تستقبل إن استحاضت».

و الإنصاف أنّ هذا الوجه تام لا مدفع له.

ثمّ إنّه لا إشكال في أنّه بعد فقد العادة و وجود التميّز الجامع لشرائط الحيضية، كعدم النقصان عن الثلاثة، و عدم الزيادة على العشرة، و بلوغ الفاقد المتخلل بين واجدين لم يثبت حيضية أحدهما، ترجع المستمرة إلى التميّز و هو المتيقّن من السنة الثانية المذكورة في المرسلة. و إنّما الكلام في صورة حصول الاختلاف في لون الدم سواد أو غيره، و لكن بغير هذا النحو لفقد أحد الشروط الثلاثة في واجد التميّز، فهل هي مشمولة للسنة الثانية أو لا؟ الظاهر الثاني، لأنّها متعرّضة لتعيين محل الحيض بعد الفراغ عن اجتماع شرائط الحيض في هذا المحل، من البلوغ، و عدم اليأس، و الشروط الثلاثة المذكورة، فهي في مقام أنّ الحيض يجب وضعه في الواجد دون الفاقد، امّا كون الواجد جامعا للشرائط و قابلا للحيضية فمفروغ عنه و ليس الكلام إلّا فيه.

فإن قلت:

ما الداعي إلى إخراج هذه الصور عن الخبر إلّا ملاحظة رعاية هذه الشروط الثلاثة، و رعايتها لا تنافي إدراج تلك الصور في الخبر، و ذلك لإمكان حفظ مدلول الخبر و القواعد الثلاث معا بالحكم بحيضية الواجد و تكميله من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 140

الفاقد، حتى يبلغ ثلاثا أو تنقيصه حتى يصل إلى العشر، أو تكميل الفاقد المتخلّل من أحد طرفيه أو كليهما، حتى يبلغ العشر ثمّ الحكم بحيضيّة الثلاث في الأوّل، و العشر في الثاني، و ما بقي من الطرفين في الثالث، و إذن فلا وجه لما ذكره الفقهاء من ذكر الشروط الثلاثة للأخذ بالتميز، و هل هو إلّا تقييد في الدليل بلا مقيّد.

قلت: هذا و إن كان عملا بفقرة من الخبر إلّا أنّه طرح لفقرته الأخرى، فإنّه مشتمل على حكمين: لزوم وضع الحيض في الواجد، و لزوم وضع الاستحاضة في الفاقد، و العمل على كلا الحكمين بدون تصرّف في أحدهما، إنّما يحصل في مورد اجتماع الشروط الثلاثة، و أمّا في غيره فلا يتم إلّا بالتصرّف إمّا في الأوّل أو الثاني، مثلا إذا كان الواجد اثنين فلو أكمل بالواجد من الدماء الفاقدة، فهذا و إن كان عملا بالفقرة الحاكمة بجعل ما بالصفة حيضا، لكنّه تقييد في الفقرة الحاكمة بوضع الاستحاضة في غيره، إذ قد استثنى على هذا من هذا الحكم يوم واحد، و مراعاة القواعد الثلاث، كما تحصل بذلك تحصل أيضا بالتصرّف في الفقرة الأولى: بأن يحكم بكون تمام الدم في الشهر استحاضة، و حيث لا مرجح لأحد هذين التصرفين يسقط الخبر عن الحجية بالنسبة إلى هذه الفروع رأسا.

فإن قلت: لا إشكال في أنّ قاعدة الإمكان و إن كان معارضة بالمثل في جميع

دماء الشهر، و لكن المعارضة في تعيين الخصوصية، و أمّا حيضية بعض من دماء الشهر في الجملة فلا معارضة فيها من حيثها.

و بالجملة فالعلم الإجمالي حاصل بوجود حيض في تمام الشهر، و عدم كون الجميع استحاضة، و إذن فيدور الأمر في هذه الفروع بعد نفي احتمال استحاضة الكل، بين جعل تمام عدد الحيض في الفاقد، و بين جعله في الواجد ثمّ تكميله أو

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 141

تنقيصه حسب ما يقتضيه المقام، و لا إشكال أنّ الثاني أوفق بأخبار التميّز من الأوّل، فيكون هو المتعيّن إذ فيه الجمع بين الأدلّة في المقامات الثلاثة.

قلت: ما ذكرته مبني على فرض العموم في موضوع الرواية، بالنسبة إلى صورة جامعية الواجد للشروط الثلاثة و غيرها، و كونها بصدد البيان من هذا الحيث، ثم تقييدها بملاحظة الشروط الثلاثة بصورة جامعيتها، و لكن قد عرفت أنّ الفرض خلاف الواقع، و أنّه ليس في الرواية تعرّض إلّا لحيث تعيين محل وضع الحيض، بعد الفراغ عن قابلية نفس المحل في حدّ ذاته، بدون الحاجة إلى جعله قابلا بالتكميل أو التنقيص، و إذن فلا محيص عن عدم مشمولية الفروع المذكورة للسنة الثانية، و أمّا السنة الثالثة فهي أيضا غير شاملة لها، لأنّ الموضوع لهذه السنة على ما يستفاد من ذيل المرسلة عند بيان الملخص، هو المرأة التي لا عادة لها و لا تمييز، و لكن أطبق عليها الدم و كان دمها على لون واحد فلا حظ، و المفروض اختلاف اللون في تلك الفروع، و إذن فلا محيص عن الاحتياط في جميع تلك الفروع، اللّٰهمّ إلّا أن تعمل في الشهر الأوّل باستصحاب الطهر حتى يبقى من الشهر ثلاثة أيام، فحينئذ تبني على الحيض

لانقطاع الاستصحاب بواسطة معلومية انتقاض الطهر السابق، أمّا بهذه الثلاثة أو بما تقدّمها، ثمّ تعمل في الشهر الثاني باستصحاب الحيض إلى العشرة، ثمّ تحكم بعده بالطهر إلى آخر الشهر، ثمّ تبني على استصحاب الطهر في الثالث حتى تبقى ثلاثة و هكذا.

و من هنا ظهر ما في حكمهم بالأخذ بالروايات في هذه الفروع ملزمين لاحتساب التميّز من العدد، إذ قد عرفت أنّ هذه خارجة عن مورد الرجوع بالروايات، و على فرض عدم الخروج فما الملزم لاحتساب التميّز من العدد، بعد بقاء

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 142

موضوع السنة الثالثة مع الثانية، بحيث لا تدخل المرأة في أحدهما إلّا و تخرج عن الآخر، فهذان الحكمان مبنيّان على اجتماع عنوانين متناقضين في المرأة.

ثمّ بعد فقد التميّز هل المرجع مع ثبوت عادة الأهل هي، أو العدد في الروايات؟ مقتضى المرسلة هو الثاني، و مقتضى مقطوعة سماعة التي تلقّاها الأصحاب بالقبول هو الأوّل، و المقطوعة هكذا: «سألته عن جارية حاضت أوّل حيضها فدام دمها ثلاثة أشهر، و هي لا تعرف أيام أقرائها؟ فقال: أقراؤها مثل أقراء نسائها، فإن كان نساؤها مختلفات فأكثر جلوسها عشرة و أقلّه ثلاثة» «1».

و الإنصاف عدم الجمع العرفي هنا، إذ لا يخفى على من لاحظ المرسلة أنّها آبية عن التقييد: بأن يقال: إنّ مقتضاها رجوع فاقدة التميّز إلى العدد سواء ثبت لها عادة أهل أم لا، و مقتضى الثانية تقييد ذلك بالصورة الثانية، و لا يشكل بعدم التصريح في المقطوعة بفقد التميز، و من هذه الجهة أيضا معارضة مع المرسلة، فإنّه يمكن دفع ذلك بأنّه من باب ذكر الفرد الغالب، فانّ غالب أفراد الفاقدة هو المبتدئة و بالعكس، و الشاهد على ذلك أنّه جعل في

المرسلة موضوع السنة الثالثة أيضا هو المبتدئة، مع تصريح في ذيلها بأنّ المناط فقد التميّز، و الحاصل رفع التنافي من هذه الجهة و إن كان بمكان من الإمكان، و لكنّه من الجهة الأولى في غاية الصعوبة و الإشكال، فإنّه مع ظهور عدّة مواضع من المرسلة، بل صراحتها في أنّه بصدد مقام البيان بحيث لم يبق لأحد مقال بالرأي، كيف يمكن الحكم بإهمالها لمثل هذا المطلب، فالتنافي بينها و بين المقطوعة تبايني، فلا بدّ من الرجوع إلى المرجحات السندية لو كانت و إلّا فالتخيير، و الظاهر ثبوتها في طرف المرسلة،

______________________________

(1)- الوسائل: ب 8 من أبواب الحيض، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 143

ثمّ إنّه زاد بعض العلماء بعد فقد عادة الأهل الرجوع إلى عادة الأقران و ليس له وجه موجّه، كما يظهر من مراجعة طهارة شيخنا المرتضى بحيث ينبغي القطع بعدمه، و كيف كان فلا كلام في الرجوع إلى العدد في الجملة.

إنّما الكلام و الإشكال في تعيينه، و أنّه السبع في كل شهر، أعني: الشهر اليومي الذي هو عبارة عن ثلاثين يوما دون الهلالي، أو الستّ كذلك، أو ثلاثة في شهر، و عشرة في آخر، إمّا مخيّرة في تقديم أيّهما شاءت أو مع تعيّن تقديم الأوّل، أو مع تعيّن تقديم الثاني، أو التخيير بين جميع هذه الأعداد الأربعة بحسب الدورات، أو تعيين ما كان منها موافقا لمزاج المرأة، فإن كانت حارة المزاج تعيّن عليها السبع، و إن كانت باردة تعيّن الست، و إن كانت متوسطة المزاج تعيّن الثلاث في شهر و العشر في آخر إلى غير ذلك من الاحتمالات، حتى ذكر شيخنا المرتضى أنّ الأقوال في هذه المسألة تنتهي إلى عشرين قولا، و منشأه الاختلاف

الواقع في الأخبار، و اختلاف القائلين في فهم مدلولها و تضعيف سندها و تقويته، فأحد الأخبار هو المرسلة التي قد عرفت الاختلاف في نفسها، ففي موضع تعيين السبع و في آخر الترديد بينه و بين الست، و الباقي ثلاث روايات موثقتا ابن بكير مع المقطوعة المتقدمة في عادة الأهل.

أمّا إحدى الموثقتين: «ففي المرأة إذا رأت الدم في أوّل حيضها فاستمر بها الدم بعد ذلك تركت الصلاة عشرة أيام، ثمّ تصلّي عشرين يوما، فإن استمر بها الدم بعد ذلك تركت الصلاة ثلاثة أيام، و صلّت سبعة و عشرين يوما» «1».

و أمّا الأخرى: «ففي الجارية أوّل ما تحيض يدفع عليها الدم فتكون

______________________________

(1)- الوسائل: ب 8 من أبواب الحيض، ح 6.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 144

مستحاضة، إنّها تنتظر بالصلاة فلا تصلّي حتى يمضي أكثر ما يكون من الحيض، فإذا مضى ذلك و هو عشرة أيام فعلت ما تفعله المستحاضة، ثمّ صلّت فمكثت تصلّي بقية شهرها ثمّ تترك الصلاة في المرة الثانية أقل ما تترك امرأة الصلاة، و تجلس أقل ما يكون من الطمث و هو ثلاثة أيام، فإن دام عليها الحيض صلّت في وقت الصلاة التي صلّت، و جعلت وقت طهرها أكثر ما يكون من الطهر و تركها الصلاة أقل ما يكون من الحيض» «1».

هذه أخبار الباب و أنت ترى ما فيها من غاية التنافر، و التهافت، و التكاذب، فإنّ أقصى ما يمكن أن يقال في توجيه الجمع العرفي بينها أن يقال:

المرأة لها التخيير بحسب الواقع بين اختيار تلك الأعداد، من السبع، و الست، و الثلاث، و العشرة، فيؤخذ تصريح كل من الأطراف و يرفع اليد به عن ظاهر الآخر، فانّ صريح المرسلة كفاية السبع في

جميع الشهور، و ظاهرها عدم كفاية غيره و كذلك ظاهر الروايات الثلاث- بعد حملها على الدورات، يعني: تنزيلها على تقسيم حالات المستحاضة إلى شهرين شهرين، ثمّ الأخذ في أحدهما بأكثر الحيض و في الآخر بأقلّه، و الإغماض عمّا ربما هو ظاهر الموثقتين: من جعل العدد عشرة في الشهر الأوّل، و ثلاثة في غيره من الشهور للتالي، و عمّا ربما هو ظاهر المقطوعة من ثبوت التخيير فيما بين الحدين أيضا دون اختصاصه بنفس الحدين- لا إشكال أنّه نفي غير ذلك و صريحها إثبات هذا، و لا يلزم الإشكال على هذا الجمع بعدم المعقولية لاستلزامه التخيير بين الفعل و الترك، لرجوعه إلى تخيير المرأة في اليوم الرابع إلى العاشر بين فعل التحيض و تركه، لأنّ ذلك مندفع بأنّ التخيير إنّما هو

______________________________

(1)- الوسائل: ب 8 من أبواب الحيض، ح 5.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 145

في البناء كما في أيام الاستظهار، بناء على حمل أخباره على التخيير فتبني إمّا على وجوب التحيّض أو على عدم وجوبه، لا أنّها مخيّرة بين نفس البناء على كونها حائضا شرعا و عدمه.

و لكن هذا الجمع مع ذلك لا يمكن الذهاب إليه، إذ في المرسلة ما ينفي التخيير صريحا و هو قوله: «أقصى وقتها سبع و أقصى طهرها ثلاث و عشرون» فحيث جعل أقصى حيضها السبع نفى صريحا لما زاد على السبع و هو العشرة، و حيث جعل أقصى طهرها الثلاث و العشرين نفى صريحا لما نقص عن السبع كما هو واضح، فكما أنّه صريح في إثبات السبع صريح في نفي الزائد عليه و الناقص عنه.

ثمّ إذا تعذّر الجمع العرفي فلا بدّ من الرجوع إلى المرجحات السندية، و لا يخفى أنّها مع

المرسلة و لا يقدح إرسالها، لأنّ المرسل يونس بن عبد الرحمن، و ذلك لقوّة سندها و شهادة متنها على صدورها عن الإمام- عليه السّلام-، و إذن فيتمحّض الكلام في التنافي الواقع في نفس المرسلة: من جهة تعيين السبع في موضع و أنّه أقصى الحيض، و أنّ الثلاث و العشرين أقصى الطهر، و الترديد بينه و بين الستّ في آخر، و الأمر من هذه الجهة سهل، إذ لا يخلو الأمر من شيئين كون الترديد من الإمام و كونه من الراوي، فعلى الأوّل كان السبع طرفا للتخيير فهو مأذون فيه قطعا، و على الثاني فيرفع الإجمال عن كلام الراوي في محل ترديده، بكلامه الآخر الخالي عن الترديد، و إن كان الكلامان صادرين في مجلس واحد، و لا يكشف اتحاده عن ثبوت الترديد في كلا المقامين، لإمكان عدم سماع الراوي عند نقل الإمام- عليه السّلام- عن النبي صلى اللّٰه عليه و آله و سلم خصوص أحد العددين، و سماعه عند مقالة نفس

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 146

الإمام خصوص السبع، فنقل ما سمع في المقام الثاني و لم ينقل شيئا معيّنا في الأوّل، مع إمكان جعل الثاني قرينة قطعية على أنّ الأوّل أيضا هو السبع، للزوم الكذب إذ يلزم الإخبار بالسماع في شي ء لم يسمعه.

و الحاصل، الأمر غير خارج عن هذين و إن كان تقرّب الأوّل أصالة عدم كون الترديد الواقع في كلام الناقل منه، و كونه من المنقول منه ما لم يكرر لفظ «قال» أو ما أدّى معناه، و تقرّب الثاني أنّه لو كان من المنقول منه، فما وجه حكم الإمام في الثاني بأقصائية الثلاث و العشرين للطهر، إذ على هذا كان أقصى الطهر أربعا و

عشرين، و على كل منهما يكون الأخذ بالسبع مجوّزا و مأذونا فيه، إمّا لكونه أحد فردي التخيير، و إمّا لمكان الظهور اللفظي القاضي بذلك.

ثمّ على تقدير تكافؤ طرفي التعارض في المقام، نظرا إلى أنّ الروايات الثلاث أيضا قد تلقّاها الأصحاب بالقبول، يتعيّن التخيير بين الأخذ بأي الخبرين، فيقع الكلام في أنّ هذا التخيير هل هو للمجتهد خاصّة؟ أو يعم المقلّد أيضا كما هو مقرر في أصول الفقه؟ و الحق في ذلك كما حقّق في الأصول هو الثاني.

و توضيحه أنّ النزاع واقع في كلية التكاليف الثابتة في أصول الفقه: من العمل بخبر الواحد، و عدم نقض اليقين بالشك في الشبهات الحكمية، و التخيير الخبري في مثل المقام من مقامات تكافؤ الخبرين المتعارضين، أنّها تكاليف في حقّ المجتهد خاصة و لا حظّ للمقلّد فيها، أو أنّها مثل التكاليف الفرعية ثابتة في حقّ جميع المكلّفين: من غير فرق بين المجتهد و المقلّد، و الحقّ أنّ نسبة خطاب صلّ و نحوه، و خطاب «لا تنقض»، و خطاب «إذن فتخيّر» على نهج واحد في كونهما متوجهين إلى عامة المكلّفين، من دون اختصاص بطائفة خاصة، فكما أنّ خطاب

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 147

صلّ لا تخص بأحد منهم فكذلك هذه الخطابات.

نعم غاية ما هناك أنّ الفهم أمر مخصوص بالعالم، و تعيين مفاد الألفاظ، و تشخيص ظواهرها و غير ذلك من مقدمات الاستنباط خاصّة له، و لا حظّ للعامي فيه لعدم قدرته عليه، فيكون فهم العالم طريقا و حجة للعامي بأدلّة التقليد، و أمّا نفس العمل الذي هو المأمور به في تلك الأوامر فيشترك فيه الفريقان، و تظهر ثمرة الوجهين في المقام في أنّه على القول بكونه للمجتهد دون المقلّد، فهو

في مقام عمل نفسه و في مقام الإفتاء يختار أي الخبرين شاء، و يعمل أو يفتي بمضمونه و ليس للمقلّد التعدّي عنه، و على القول الآخر ففي مقام الإفتاء يفتي بالتخيير في البناء على أي العددين شاء المقلّد، فيقع اختيار التعيين إلى المقلّد.

ثمّ على كل حال، فالعدد المأخوذ أيّا ما كان من تلك الأعداد المذكورة، فهل لها التخيير في وضعه في [أيّ] موضع من الشهر شاءت؟ أو يتعيّن الوضع في الأوّل؟ و المراد بالشهر هنا هو الثلاثون يوما، المفروض ابتداؤها من أوّل رؤية الدم، و هنا و إن كان احتمال تعيّن الوسط أو الآخر، أو التخيير بين اثنين من هذه الثلاث، لكن غير ما ذكر من الاحتمالين، أعني: التخيير في جميع الشهر، أو التعيين في الأوّل لا قائل به فالمقطوع عدمه، فالأمر مردّد بين الاحتمالين ليس إلّا، و إذن فقبل الخوض في ما يستفاد من الدليل، نتكلّم في الأصل العقلي في مورد الدوران بين التخيير و التعيين.

فنقول: إنّه و إن وقع الخلاف في الدوران بينهما في سائر المسائل الفرعية، الخالية عن التعبد و النسبة إلى الشرع أنّ العقل حاكم بالبراءة أو الاحتياط، فإنّه من أفراد الدوران بين الأقل و الأكثر، و لكنّه ينبغي عدم الخلاف هاهنا في كونه هو

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 148

الاحتياط، و لزوم الأخذ بالقدر المتيقّن، و وجه ذلك أنّ المقام نظير الدوران بين التعيين و التخيير في الحجة: بأن تردد الأمر بين أن يكون الحجة هو الشي ء الفلاني بالخصوص، أو هو و شي ء آخر على وجه التخيير، بحيث يجوز للمكلّف الأخذ بمدلول كل منهما، و نسبته إلى الشرع و الحكم بأنّه ما قاله الشارع، فإنّهم بكلمة واحدة قائلون بالاحتياط،

حتى القائلين بالبراءة في الفرعيات عند دوران الأمر بين التعيين و التخيير، و وجه ذلك أنّ مورد جواز نسبة حكم إلى الشرع موقوف إلى بلوغ الإذن من الشرع، و هو موقوف على الاطلاع بالإذن، و لا يكفي وجود الواقعي، و إذن فلو نسب حكم لم يعلم الإذن فيه من الشرع تفصيلا، و لو وقع طرفا للعلم الإجمالي كان تشريعا محرّما و لو كان بحسب الواقع مأذونا فيه، و إذن فالالتزام بمدلول إحدى الحجتين، أعني: ما كان قدرا متيقّنا بعنوان أنّه ورد الحكم به من الشارع مقطوع الجواز، و ليس بتشريع لمعلومية إذن الشرع فيه، و أمّا الحجة المشكوكة و الأخذ بها و الالتزام بمدلولها على أنّها حكم اللّٰه معلوم الحرمة، فإنّه يكفي في عدم الحجية الشك فيها.

فنقول: من هذا القبيل ما نحن فيه، فانّ المرأة التي لا تريد الاحتياط، و ليس لها أمارة على الحيضية من العادة، و التميّز، و قاعدة الإمكان، و ليس في حقّها استصحاب حكمي أيضا و أرادت أن تصدر منها الوظائف الخاصة بعنوان أنّها وظائف الحائض، فلا يتحقّق ذلك منها إلّا بتحقّق التحيّض الذي يعبّر عنه بالفارسية (خود را به حيض زدن)، و لا ينفك عنه، يعني: الإتيان بالوظائف الخاصة، بعنوان أنّها أحكام اللّٰه في حقّها من جهة معاملة الحائض معها، و هذا المعنى لا إشكال أنّه قبل إحراز الإذن فيه من الشرع، تشريع محرّم لتضمّنه النسبة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 149

إلى الشرع، فإذا فرض أنّ الأمر بالتحيّض الصادر من الشرع، دار أمره بين أن يكون تعيينيّا، بالنسبة إلى التحيّض في الجزء الأوّل من الثلاثين يوما، و أن يكون تخييريا، بالنسبة إلى التحيّض في كل من أجزائه، كان القدر

المتيقّن هو الإذن في التحيّض في الجزء الأوّل، و يكون التحيّض في سائر الأجزاء، نسبة حكم إلى الشرع مع احتمال عدم إذن الشرع فيه، فيكون تشريعا محرّما. هذا كلّه بحسب الأصل العقلي.

و أمّا الكلام بحسب ما يستفاد من الدليل: فالحق أنّه التعيين في أوّل الشهر، و يظهر لذلك من فقرتين في المرسلة.

[الفقرة] الأولى: قوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم: «تحيّضي في كل شهر في علم اللّٰه ستة أو سبعة، ثمّ اغتسلي غسلا و صومي ثلاثا و عشرين» و الاستدلال به على المدّعى يبتني على استظهار مطلبين منه، بحسب ما يتفاهم منه عرفا.

الأوّل: كون قوله: «في كل شهر»، ظرفا لكلتا الفقرتين من التحيّض و الصوم، و أمّا دعوى أنّ المستفاد منه ليس إلّا أنّ الوظيفة في كل شهر، هو التحيّض سبعة أيام متصلا بعده بثلاثة و عشرين تطهرا، من دون تعرض لكون التطهر في شهر التحيّض، فيصدق لما إذا كان التحيّض في آخر الشهر الأوّل، و التطهر في أوّل الشهر الثاني ففاسدة لتبادر خلافها عرفا، و يظهر بمراجعة أمثال العبارة عند العرف، ألا ترى أنّه لو قيل: كل المرق في هذا اليوم و بعده اشرب الشاي، فالظاهر كون اليوم ظرفا لكلا الأمرين، فلا يعد أكل المرق في آخر جزء من اليوم، و شرب الشاي بعده في أوّل الليلة المستقبلة امتثالا له.

و الثاني: أن يكون قوله: «و صومي» الذي هو بمنزلة تطهّري، و ذكر الصوم من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 150

باب المثال عطفا على «اغتسلي» الذي هو مدخول «ثمّ» لا على مجموع كلمة «ثم و المدخول» فإنّه على هذا يستفاد انّ في الشهر للحائض وظيفتين، الأوّل: التحيّض ثمّ الغسل بعده، و الآخر: التطهّر

من دون تعرض للترتيب بينهما و عدمه، و على الأوّل أنّ المقدّم أيّهما، و لكن على تقدير العطف على المدخول يكون المعطوف أيضا مدخولا لكلمة «ثم» فيستفاد فيه التعقيب أيضا، و الظاهر في هذا المقام أيضا هو العطف على المدخول، و يظهر بمراجعة العرف في أمثال العبارة، ألا ترى لو قيل:

كل اليوم الثريد ثمّ اغسل رأسك و اشرب الشاي، أنّه يستفاد منه تعقيب شرب الشاي بالنسبة إلى الأكل و الغسل و وقوعه عقيبهما، ثمّ بعد تمامية المقدمتين يحصل المطلوب.

فإنّه يكون حاصل المستفاد من الرواية على هذا، أنّه يجب في كل ثلاثين يوما على المرأة المستمرة أن تعمل عملين، الأوّل التحيّض سبعة أيام مقدّمة ذلك على العمل الثاني، و هو التطهر ثلاثة و عشرين يوما، و هذا المعنى لا يتحقّق إلّا بوضع سبعة التحيّض في أوّل الثلاثين كما هو واضح.

الفقرة الثانية: التي يستفاد منها أيضا المدّعى المذكور من الترتيب قوله في ذيل المرسلة: «فإن استمر بها الدم أشهرا فعلت في كل شهر كما قال لها، فإن انقطع الدم في أقلّ من سبع أو أكثر من سبع، فإنّها تغتسل ساعة ترى الطهر و تصلّي، فلا تزال كذلك حتى تنظر ما يكون في الشهر الثاني، فإن انقطع الدم لوقته من الشهر الأوّل سواء حتى توالى عليها حيضتان أو ثلاث، فقد علم الآن أنّ ذلك قد صار لها وقتا و خلقا معروفا».

توضيح الاستدلال أنّ الظاهر من قوله: «فإن انقطع في أقل إلخ»، أنّ ذلك

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 151

بعد مضي الأشهر التي ذكرها في قوله: «فإن استمر بها الدم أشهرا» و عند ابتداء دخول الشهر اللاحق، لا أنّه حكم بالنسبة إلى ما بين نفس الأشهر، يعني إذا

استمر بها الدم ثلاثة أشهر مثلا فعلت في كل من هذه الثلاثة العمل الذي قال لها، و هو التحيّض سبعة و التطهر ثلاثة و عشرين، ثمّ إذا دخل الشهر الرابع نظرت إلى الدم «فإن انقطع في أقل إلخ» و هذا دليل على أنّ تطهر كل شهر واقع في نفسه كتحيّضه، و أنّ التحيّض مقدّم على التطهر، و ذلك لأنّه فرض المرأة عند دخول الشهر الرابع، فارغة عن وظائف الأشهر الثلاثة المتقدمة، و مبتلاة من أوّل دخوله بعمل نفس هذا الشهر، و ذلك لأنّه فرضها مشتغلة في أوّل الرابع بسبع التحيّض، و لو كانت متمّمة لعمل الشهر السابق لكانت متطهرة لا متحيّضة، فيدل على أنّ تطهر الشهر السابق حصل فيه، فيعلم منه أنّ في أوّل كل شهر يجب استئناف عمل جديد، دون الاشتغال بإتمام العمل السابق، فلا تدخل وظيفة شهر في شهر بعده.

فإن قلت: لا نسلّم دلالتها على كون السبع الأول من الشهر الرابع سبع التحيّض، بل يلائم مع كونه من جزء التطهّر للشهر السابق، و ذلك لأنّه لا يستفاد منه الحكم بالتحيّض إلّا بعد الانقطاع، فلا ينافي أن يكون الحكم الظاهري هو التطهر: بأن كانت مشتغلة بتطهر الشهر السابق.

قلت: بل يدل على أنّه سبعة التحيّض بدليل ذكر عدد السبع، فإنّه لا شبهة أنّ المراد به سبع التحيّض، و إلّا فلا خصوصية لذكر هذا العدد.

و بالجملة يستفاد منه أنّه لا بدّ في كل شهر من الفراغ من كل ما يتعلّق بهذا الشهر، ثمّ تأسيس الأساس الجديد عند دخول الشهر البعد له أيضا، و الاشتغال

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 152

بعمله و إتمامه فيه أيضا، و يستفاد ذلك من فرض السبع في أوّل الشهر الرابع كما

هو واضح، فعلم من جميع ما ذكرنا أنّ التعيين في الأوّل هو الأقوى و الأحوط.

ثمّ قد يقال: إنّ على فرض الإغماض عن هذين الظهورين فقوله: «تحيّضي سبعا» حيث يكون في مقام البيان، و ذلك يظهر من تصريح المرسلة يكون له الإطلاق بالنسبة إلى تمام الشهر، فثبت التخيير بإطلاق هذا الكلام، و أجاب الأستاذ- دام ظله- بأنّ الأخذ بالإطلاق إنّما هو في مورد لو كان القيد المحتمل دخيلا في المطلوب لبّا، و لم يذكر في اللفظ حصل نقض الغرض و هذا لا يلزم في المقام، و إن سلّمنا كونه بصدد البيان، و وجه عدم اللزوم أنّ العلم بالاستمرار لا يحصل في أوّل كل ثلاثين للمرأة، أمّا الثلاثون الأول فواضح، و أمّا الثاني و ما بعده، فلأنّ ذلك مرض في المرأة، و من المعلوم أنّ المرض و لو امتد مكثه فالإنسان لا يحصل له عند دخول الشهر العلم ببقائه إلى آخر الشهر، بل يحتمل زواله في الأثناء و لو بسبب قهري، فالعلم من أوّل الشهر بالبقاء إلى آخره لا شك أنّه أمر نادر الحصول، إذ لو فرض حصوله فهو في مثل حمنة التي هي مورد الرواية، ممّن بلغ مرضه إلى حدود سبع سنين و لا شك في ندرته، و بعد ذلك نقول: تكليف المرأة في أوّل كل ثلاثين يوما هو التحيّض، لأنّه بحسب الفرض غير عالمة بتجاوز دمها عن العشرة بالنسبة إلى هذا الشهر.

نعم هي عالمة بالتجاوز بالنسبة إلى الماضي، ففي تحقّق موضوع الاستمرار في حقّها بالنسبة إلى الشهر الحاضر شاكة، و من المعلوم أنّ التكليف حينئذ ما لم ينقض العشر هو التحيّض إلى العاشر، إذا عرفت ذلك فتكليف «تحيّضي» بالنسبة إلى كل شهر إنّما يتوجه إلى

المرأة بعد علمها بكونها مستمرة، و هو بعد انقضاء العشرة،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 153

فينكشف حينئذ أنّ تحيّضها إلى العاشر كان خلاف الواقع، و أنّ الواقع كان هو التحيّض بالسبع، و حينئذ فالمفروض حصول التحيّض بالسبع منها في ضمن العشر، فمن المحتمل أن يكون غرض الشارع متعلّقا بخصوص التحيّض في أوّل الشهر، و لم يصرّح به لكونه حاصلا في الغالب، لعدم كون النساء مسامحات في تلك الأزمنة في التكاليف الشرعية فلو لم يذكر القيد حينئذ لم يلزم نقض غرض لفرض حصول غرضه، و حينئذ فلا يبقى الإطلاق للكلام حتى يرجع إليه في المورد النادر، و هو صورة حصول العلم بالاستمرار في أوّل الشهر، بل يكون المرجع هو الأصل العقلي و هو التعيين كما عرفت هذا ما ذكره- دام ظلّه.

و يمكن الخدشة فيه: أوّلا: بأنّا لا نسلّم غلبة عدم حصول العلم بالاستمرار و بقاء الدم من أوّل الثلاثين إلى آخره، بل هو يحصل بامتداد ذلك إلى سنة مثلا و يحتمل حصوله في الأقل أيضا.

و ثانيا: سلّمنا هذه الغلبة، و لكن ما الدليل على أنّ الموضوع للتحيّض بعدد الرواية هو المستمرة بالنسبة إلى كل ثلاثين، حتى تحتاج في أوّل كلّ ثلاثين لمجي ء حكم المستمرة إلى إحراز التجاوز في هذا الشهر، بل الموضوع هو التجاوز في الشهر الأوّل، و نحن نقول أيضا بأنّه قبل العلم بالتجاوز لا بدّ من معاملة الحيض إلى العاشر، و أمّا بعد التجاوز في الشهر الأوّل لو استمر إلى الشهر الثاني، فلا تحتاج حينئذ إلى هذا العلم لصدق المستمرة عليها فعلا.

نعم لو علم بأنّ الدم ينقطع لدون العاشر لم يجز لها الاقتصار على السبع، أمّا ما دام تحتمل البقاء إلى العاشر تكون مشمولة

للتحيّض بالاعداد بحسب الظاهر، غاية الأمر لو انقطع لدون العشر، ينكشف أنّ حيضه من أوّل العشر إلى

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 154

حيث انقطع لا خصوص ما عيّنه من العدد، فلا يقال: إنّه ينافي كون الموضوع هو التجاوز في الشهر الأوّل، أنّه لو انقطع على العاشر أو أقل كان الكلّ حيضا، فيدل ذلك على أنّ الموضوع إنّما هو التجاوز بالنسبة إلى كل شهر، إذ الحكم بالعدد يكون ظاهريا، و الانقطاع يكشف كونه مخالفا للواقع.

و بالجملة المستفاد من الرواية أنّه بعد التجاوز في الشهر الأوّل، تدخل تحت تكاليف المستمرة: من الأخذ بالعدد الخاص في كل ثلاثين يوما، إلّا أن يظهر خلاف ذلك و أنّ العدد المأخوذ لم يكن وحده حيضا، بل مع ضميمة، فعلم أنّ الحكم بتحيّض غير ذات العادة في نفس العشرة إلى العاشر، مخصوص بالعشر الأول من الشهر الأوّل من أشهر الاستمرار، و لا يعم العشر الأوّل من كل شهر، بل يتبدّل حكمها بالتحيّض في نفس العشر إلى السبع، مع الحكم بأنّ مع الانقطاع على العاشر أو ما دونه يكون الكل حيضا، و إذن فلو أغمض النظر عن ظهور الفقرتين اللتين ذكرناهما في الترتيب، لكان الإطلاق منعقدا و دليلا على التخيير.

ثمّ على القول بالتخيير هل هو بدوي أو استمراري؟ بمعنى حصوله حتى بعد البناء و العمل، مثلا لو بنت على السبع الأول فهل لها بعد انقضاء السبع و عمل الحيض فيها الرجوع و اختيار السبع الثاني؟ «1» أو الثالث مثلا و هكذا أو لا؟

الأظهر هو الثاني، فإنّ مقتضى استصحاب بقاء التخيير الثابت في الزمان السابق المشكوك في اللاحق و إن كان جاريا، و هو حاكم أيضا على استصحاب أحكام الحيض الجائية من قبل

الاختيار أو البناء في الزمان السابق، حيث إنّ الشك في ارتفاعها بالرجوع ناش عن الشك في بقاء التخيير و عدمه، فيكون الأصل في

______________________________

(1)- المراد من السبع الثاني ما كان أوّله اليوم الثاني من الشهر و هكذا (منه عفى عنه).

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 155

السبب مقدّما على الأصل في المسبب، إلّا أنّ الواقعة الواحدة، أعني: تحيض سبع واحد في تمام الشهر، لو بنت الخيار فيه في تمام الشهر بحيث انجر ذلك إلى إفطار تمام الشهر، لو اتّفق ذلك في رمضان بأن تبني أوّلا على السبع الأول، ثمّ بعد انقضائه ترجع و تعيّن في الثاني و هكذا إلى آخر الشهر، يكون أمرا غريبا غير معهود من الشرع، فإنّه يشبه باللعب و حكم اللّٰه تعالى أجلّ و أعلى من ذلك.

نعم لو كان هذا التخيير في الوقائع المبتدئة، كما في التخيير في الأخذ بالخبرين الدال أحدهما بوجوب الجمعة، و الآخر بوجوب الظهر: بأن يكون المكلّف في كل جمعة مخيّرا في اختيار أحدهما، أمر ممكن لا يعد من الغرائب و الموحشات.

ثمّ على القول بالتخيير ففي الشهر الأوّل الذي تحيّضت فيه إلى العاشر احتياطا، هل يقال بتعيّن السبع الذي تحيّضت من أوّل الشهر فيتعيّن الاستحاضة في الباقي؟ أو يقال حيث صدر منها هذا السبع من غير التفات إلى كونه أحد أفراد التخيير، فلم يوجب ذلك سقوط التخيير و الموجب إنّما هو التعيين بالاختيار و القصد و هو منتف، فإنّها تخيّلت كون التحيّض في ذلك السبع متعيّنا عليها من قبل الشرع، و الأقوى في هذه المسألة هو السقوط و عدم التخيير، و الأصل فيه أنّ الإتيان في كل واجب تخييري بإحدى الخصال، و لو لم يكن عن علم بكونها إحداها

يكون منطبقا عليها الأمر التخييري قهرا و يحصل الامتثال، فلو حصل العلم بعده بالتخيير لم يكن له اختيار الخصلة الأخرى، مثلا لو صلّى في أحد الأماكن الأربعة متخيّلا أنّ الواجب عليه الإتمام، أو متكلا على أصل ظاهري مقتضاه ذلك، ثمّ انكشف التخيير بينه و بين القصر، فهل لأحد أن يقول إنّه مشغول الذمة بأحد

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 156

الأمرين؟ لأنّه لم يأت بأحدهما بعنوان الاختيار؟ و وجه ذلك انّ عنوان الاختيار خارج قطعا عن المطلوب و المطلوب هو ذات أحد الأمرين و هو حاصل بالفرض.

ثمّ على القول بالتخيير أيضا هل يجب موافقة الشهر الثاني للأوّل؟ بمعنى أنّه لو وضع العدد في أوّل الشهر الأوّل وجب ذلك في الثاني و ليس لها اختيار الوضع في غير الأوّل، أو أنّها كما كانت مختارة في الشهر الأوّل، فاختيارها باق في الثاني أيضا فلها أن تختار السبع في أوّل الشهر الأوّل، و في الثاني في آخره؟

الأظهر هو الأوّل لأنّا قد استفدنا من الرواية أنّه يجب تحيض السبع في كل ثلاثين يوما، بحيث لا يبقى ثلاثون خاليا من سبع التحيض، و في الصورة المزبورة، أعني: وضع السبع في أوّل الأوّل، و آخر الثاني حصل ستة و أربعون يوما في الوسط خالية عن سبع التحيض، و هو خلاف الرواية، و هكذا نقول إلى أن يكون المتوسط أقل من ثلاثين، فلو أخّرت في الشهر الثاني عن محل تحيض الشهر الأوّل بأقل من سبعة أيام، كان المتوسط لا محال أقل من ثلاثين، لكن يقع الكلام حينئذ في أنّه يلزم جواز التأخير بيوم أو يومين، بل بستة أيام.

و التحقيق أن يقال: لا بدّ أن لا تبلغ الأعداد التي تؤخّرها إلى الثلاثين، مثلا

لا يجوز أن تؤخّر ستة أيام في خمسة أشهر، فإنّ الخمس ستات يكون ثلاثين يوما خالية عن سبع التحيض.

نعم يجوز ذلك في أقلّ من خمسة أشهر. هذا كلّه هو الكلام في المبتدئة.

و أمّا الناسية: فهي على ثلاثة أقسام: ناسية الوقت دون العدد، و عكس ذلك، و ناسية كليهما.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 157

و الكلام فعلا في الثالث: و هي المسمّاة بالمتحيّرة و المحيّرة باعتبار تحيّر نفسها، أو أنّها محيّرة للفقيه في فهم حكمها.

و كيف كان فنقول: لا إشكال في دخول هذا القسم في السنّة الثالثة من المرسلة، فإنّ الموضوع و إن كان جعل هو المبتدئة، و لكن قد صرّح في الضابط بأنّ الملاك إطباق الدم و كونه على لون واحد، بعد فقد العادة المعلومة و التميز، و هذا المعنى يشمل المبتدئة و الناسية بالمعنى المذكور، و حينئذ فلا بدّ من القطع بأنّ العدد في حقّها هو السبع، عملا بالمرسلة السليمة عن المعارض من حيث الناسية، فإن رفعنا اليد عن ظهورها بالنسبة إلى المبتدئة، لوجود الأخبار المعارضة في خصوص المبتدئة، و لكن المعارض مخصوص بالمبتدئة و غير موجود في الناسية، فنحن بأي وجه عالجنا التعارض في المبتدئة بالجمع العرفي بأنحائه أو بالتخيير الخبري، لا بدّ أن نعمل بظاهر المرسلة في الناسية و لا يوجب ذلك إجمالها بالنسبة إلى الناسية، و لا يستلزم ذلك استعمال اللفظ الواحد في معنيين: بأن يكون الأمر بتحيّض السبع بالنسبة إلى المبتدئة مستعملا في التخيير، و إلى الناسية، في التعيين، فإنّ الاستعمال محفوظ في الإطلاق على أي حال، و التقييد غير قادح فيه أصلا، و لهذا لم يكن في المطلق الذي ورد عقيبه مقيّد تجوّز أصلا.

نعم نرفع بسبب المقيّد اليد عن

ظهور تطابق الإرادتين الاستعمالية و اللبّية، فيعلم أنّ اللب لم يكن في غير مورد القيد، بل كان صرف إرادة استعمالية، و إذا كان الحال في المقيّد كذلك، فلا إشكال أنّه لا بدّ من الاكتفاء على قدر شمول المقيّد، فلو كان غير شامل لبعض الأفراد فأصالة التطابق بالنسبة إلى هذا البعض سليمة عن المانع، و قد حقّق ذلك في الأصول.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 158

ثمّ بعد تعيّن عدد السبع عليها، قد عرفت أنّ ظاهر الفقرتين من المرسلة تعيين الوضع في أوّل الشهر، و على فرض الإجمال فالقدر المتيقن هو الوضع في الأوّل.

ثمّ إنّ لشيخنا المرتضى هنا كلامين في كل منهما الخدشة: و ذلك أنّه نقل الأقوال في الناسية و ذكر أنّها خمسة عشر، و عدّ من جملتها القول بالاحتياط في تمام الشهر بالجمع بين تروك الحائض و أعمال المستحاضة، و قضاء عشرة أيام أو أحد عشر يوما مع التلفيق بعد الشهر لو اتفق في شهر رمضان.

ثمّ استشكل على هذا القول بأنّه و إن كان أصوب الأقوال بحسب العمل، و لكنّه أضعفها بحسب الدليل، لأنّ دليل الاحتياط ليس إلّا العلم الإجمالي للمرأة بأنّها حائض في زمان، و مستحاضة في زمان آخر، و لا علم لها بتعيّنهما، و هذا مبتن على تنجيز العلم الإجمالي في التدريجيات: بأن يكون التكليف مردّدا بين التوجه بما هو موجود في الزمان الحاضر و ما يتجدّد في المستقبل، و الخدشة في تنجيزه أنّه على تقدير التعلّق بالأمر الاستقبالي فالتكليف به مشروط بحضور زمانه، فلم يحصل العلم بالتكليف المطلق على كل حال، هذا مضافا إلى أنّ العلم الإجمالي المذكور لا يقتضي إلّا وجوب قضاء ثلاثة أيام دون عشرة، كما هو المدّعى و ذلك

لأنّه لا علم لها بثبوت التكليف بالقضاء في أزيد من ذلك.

و أنت خبير بما في كلتا الخدشتين.

أمّا الأولى: فلأنّه من الواضح كون المقام من باب العلم الإجمالي في الآنيّات دون التدريجيات، لوضوح الإجمال و الترديد للمرأة في كل زمان، فتعلم إجمالا في كل زمان أنّها إمّا حائض فيه أو مستحاضة.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 159

و أمّا الثانية: فلأنّها عالمة في كل يوم أنّها إمّا حائض فيجب عليها تروك الحائض و قضاء صوم هذا اليوم بعد مضي الشهر، أو مستحاضة فيجب عليها الغسل و الصلاة و الصوم في هذا اليوم، فقضاء صوم كل يوم طرف للعلم الإجمالي، غاية الأمر إنّه مشروط بالزمان الآتي و الفرض تسليم تنجيز العلم في التدريجيات، ثمّ بعد انقضاء الشهر يحصل لها العلم بأنّ صوم عشرين يوما من تلك الأيام كان صحيحا، و ذلك للعلم بأنّ الحيض لا يزيد عن عشرة، و الفرض عدم تعدّد الحيض في شهر واحد، فيبقى العلم الإجمالي مؤثرا أثره بالنسبة إلى عشرة أيام أخر غير مميزة من أيام الشهر، و لم يحصل ما يوجب ارتفاعه موضوعا أو حكما، فلا وجه للاكتفاء بقضاء ثلاثة أيام.

فإن قلت: كيف ذلك و لا علم لها بحيضية أزيد من ثلاثة أيام، فعلمها الإجمالي في كل يوم إنّما هو من جهة احتمال انطباق الثلاثة عليه، و أمّا بالنسبة إلى السبعة أيام فشاكّة محضة؛ و بعبارة أخرى و إن كانت في كل يوم عالمة بأنّ الواجب عليها إمّا كذا، و إمّا قضاء الصوم في ما بعد إلّا أنّها غير عالمة بأنّ هذا القضاء غير ما علمت به إجمالا في اليوم السابق، فمن أوّل الأمر لا يتعلّق علمها الإجمالي إلّا بثلاثة أيام.

قلت: يكفي في

العلم الإجمالي هنا احتمال الحيضية، فلو لم يكن لها علم بحيضية الثلاثة أيضا و كان لها الاحتمال كفى في حصول العلم، لأنّها تعلم إجمالا بأنّها إمّا حائض أو مستحاضة، و على أي تقدير تكون مكلّفة بتكليف، بل و لو احتملت كون الدم قسما ثالثا أيضا كان الحال كذلك، فإنّه لا أقل من ثبوت تكليف الطاهر.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 160

نعم لو كان أحد أطراف الاحتمال عدم التكليف كان الاحتمال غير كاف، كما في قطيع الغنم الذي علم إجمالا بموطوئية ثلاثة منها و احتمل ذلك في سبعة و علم العدم في البقية، حيث إنّ طرف الاحتمال في السبعة عدم الموطوئية و ثبوت الإباحة، فأصالة عدم التكليف فيها سليمة عن المعارض، و أمّا لو علم أنّ السبعة على تقدير عدم الموطوئية تكون مغصوبة، فلا محالة تعارض أصالة عدم الموطوئية بأصالة عدم المغصوبية، و يكون العلم الإجمالي ثابتا في تمام العشرة من القطيع و ما نحن فيه من هذا القبيل، فوجود العلم بحيضية الثلاثة و عدمه سيّان، و يكفي احتمال حيضية العشرة في حصول الإجمال بالنسبة إليها.

فإن قلت: سلّمنا ذلك، و لكن نستصحب الطهر و عدم الحيض الثابت في زمان البياض، إلى أن يبقى مقدار ثلاثة أيّام من آخر الشهر.

قلت: هذا معارض بأصالة عدم الاستحاضة.

فإن قلت: كل دم لم يثبت حيضية فهو استحاضة شرعا و السبعة كذلك، إذ ليس على حيضيتها أمارة شرعية.

قلت: أوّل: نمنع عدم الأمارة الشرعية فإنّ قاعدة الإمكان و إن كانت معارضة بالمثل، و لكن حيضية العشرة الكلّية بلا تعيين هو المتيقن من المجموع.

و ثانيا: نمنع ما ذكرت من «أنّ كل دم لم يثبت إلخ» لعدم وضوح مدرك له.

فإن قلت: يمكن الاستصحاب الحكمي التعليقي

بأن يشار إلى شخص المرأة في زمان النقاء و البياض مجرّدة عن حالة الطهر، و يقال هذه كانت في زمان البياض بحيث لو دخل عليها شهر رمضان وجب عليها الصوم، فالأصل بقاء

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 161

ذلك فيها، و الموضوع في الاستصحاب حيث إنّه الموضوع العرفي فبقاء شخص المرأة كاف هنا، إذ الطهر غير دخيل في الموضوع عرفا، بل هو من حالاته، فلا يقال إنّ الموضوع غير محرز في حال الشك، فهذا الاستصحاب يجري إلى ما قبل الثلاثة الأخيرة من الشهر، و مقتضاه عدم وجوب قضاء أزيد من الثلاثة.

قلت: المستصحب إمّا وجوب الصوم المطلق، أو المقيد بالغسل، أو بعدمه، أو المهمل و الكل غير صحيح، لأنّ الأوّل و الثالث مقطوعا البطلان في اللاحق، و الثاني مقطوع العدم في السابق، و الرابع غير معقول لعدم معقولية تعلّق الحكم ظاهريا أم واقعيا بالمهملة، و أمّا استصحاب المقيد بالطهارة، فهو و إن كان ممكنا و لكن حيث إنّ القدرة على الطهارة مشكوكة في اللاحق، فلا يمكن إثبات التكليف الظاهري بالأصل، لأنّه فرع إحراز القدرة و لا يعارض بالتكليف بالحج بعد الاستطاعة، مع الشك في القدرة إلى بلوغ الموسم، لأنّ المقتضي فيه محرز، و الشك في التكليف الفعلي، و هنا نشك في أصل المقتضي للتكليف الظاهري من جهة الشك في القدرة على متعلّقه.

فعلم من جميع ما ذكرنا أنّ الإشكال على العلم الإجمالي بما ذكر غير وجيه.

نعم يرد عليه، أنّه قد تقرر في محله انحلال العلم بقيام الطريق على أحد أطرافه و هو هنا حاصل، فانّا و إن بنينا على إجمال الروايات في مقام تعيين العدد و في مقام التعيين في أوّل الشهر، و لكن يحصل الاحتياط بالتحيّض

في أوّل الشهر بالثلاثة، ثمّ الاحتياط بالجمع في الرابع إلى العاشر، فتدبر.

نعم يتجه ما ذكر مع رفع اليد عن الأخبار بالمرّة حتى في المقدار المتيقن و هو ممّا لا وجه له.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 162

[الفصل الرابع في أحكام الحائض]

اشارة

فصل في أحكام الحائض و فيها مسائل

منها: حرمة الصلاة

و هل هي ذاتية أو تشريعية: بمعنى أنّ الصلاة في حقها تكون كقراءة العزائم، و لبث المساجد، و مس الكتاب حراما و معصية فلو فعلت كانت معاقبة على الفعل، أو أنّه ليس تحريمها إلّا من جهة التعبّد و التديّن بما لم يأمر به الشارع؟ و تظهر الثمرة في حسن الاحتياط للمرأة المردّدة في الحيض و الطهر كالمضطربة.

فعلى الأوّل يدور الأمر في فعل الصلاة بين الوجوب و الحرمة، فلا يمكن الاحتياط، بل ربما يقال بكون الاحتياط بترك العبادة تغليبا لجانب الحرمة، كما هو المستفاد من أخبار الاستظهار.

و على الثاني يدور أمرها بين الوجوب و اللغوية، إذ لو فعلتها رجاء و تحفّظا للواقع على ما كان لم يكن تشريعا، فانّ التشريع إنّما يكون مع البناء الجزمي بالمشروعية و المحبوبية، فيكون الاحتياط في مورد الاشتباه بالجمع بين وظيفتي الحائض و المستحاضة ممكنا.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 163

فنقول: الاتفاق واقع على كون الاحتياط حسنا، و هذا يدل على أنّ لفظ يحرم الواقع في كلمات المجمعين محمول على الحرمة الوضعية، بمعنى عدم الصحة دون التكليفية. هذا بحسب كلمات القوم.

و أمّا بحسب نصوص الباب: فلا يخفى قوة ظهورها في بادئ الرأي في الحرمة الذاتية، فإنّ ظاهر كلمة لا يجوز و لا تحل، و حرمت كما وقع كل منها في رواية هو الحرمة التكليفية.

و كذلك قوله في علل الفضل عند بيان علّة التحريم من «أنّها على حدّ نجاسة، فأحب اللّٰه أن لا يعبد إلّا طاهرا» «1» فانّ الظاهر رجوع الحب إلى كلا جزئي الإثباتي و السلبي يعني أحب اللّٰه العبادة في حال الطهارة، و أحب اللّٰه عدمها في حال الحيض لا أنّ المقصود

إثبات الحب في الأوّل فقط مع السكوت عن الثاني، يعني أنّ العبادة في حال الطهارة محبوب و أمّا في غيره فليس بمحبوب، كما يؤيده التنظير بالنجاسة الظاهرية حيث إنّ الصلاة معها ليست بحرام، و إنّما هي غير محبوب، و ذلك لأنّ المناسب على تقدير إرادة هذا أن يقال: ما أحب اللّٰه أن يعبد في حال الحيض، و أمّا العبارة المذكورة فكالصريح في إفادة الحب في جانب المستثنى منه أيضا كالمستثنى.

لا يقال: إنّ الخبر يدل على مطلب الخصم من الحرمة التشريعية، من جهة جعل متعلّق الحب فيه هو العبادة، فالمحبوب وجودا أو عدما هو عبادة الحائض بالأركان المخصوصة و هو معنى التشريع.

لأنّا نقول: ليس التعبّد بمعنى فعل العبادة مساوقا للتعبّد بمعنى التشريع،

______________________________

(1)- الوسائل: ب 39 من أبواب الحيض، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 164

فانّ القصد الجزمي معتبر في تحقّق الثاني و ليس بمعتبر في تحقّق الأوّل، لوضوح أنّ العبادة تتحقّق بإتيان العمل برجاء كونه مطلوب المولى.

و بالجملة كما تكون عبادة الشخص القاطع بالإتيان مع القصد الجزمي بالمطلوبية، كذلك فعل العبادة للشخص الشاك هو الإتيان برجاء المطلوبية، فإنّ هذا أيضا تعبّد لهذا و فعل عبادة، فإذا كان العبادة بمقتضى الخبر محرمة كان كل من فرديها محرّما فيفيد الحرمة الذاتية.

و ربما يؤيد الذاتية أيضا بأخبار الاستظهار، حيث إنّ الإمام جعل الاستظهار و الاحتياط في حقّ المرأة الشاكّة هو ترك العبادة، فيدل على كون الحرمة في حقّ الحائض ذاتية و كونها أقوى من الوجوب في حقّ الطاهرة، و إلّا فلا معنى لهذا، بل كان الاحتياط هو الجمع كما هو واضح.

نعم لا دلالة في أوامر الترك من مثل قوله- عليه السّلام-: «دعي الصلاة أيام أقرائك» فإنّه وارد عقيب

الوجوب، فيمكن كونه لرفع الوجوب كما يؤتى بالأمر عقيب الحظر لإفادة رفع الحظر.

و الحاصل أنّا لا نقول: إنّ الظاهر من تلك الأخبار الأفعال المخصوصة، و لو لم يأت بها على وجه العبادة، بل نقول: ظاهرها الإتيان على هذا الوجه، و لكن نقول المراد بالعبادة الإتيان بالفعل بداع راجع إلى اللّٰه تعالى، كالركوع بقصد تعظيمه أو إطاعة أمره، أو كونه أهلا للتواضع و نحو ذلك من الأنحاء للقصد الإلهي، و إذن نقول كما انّ عبادة القاطع الإتيان بقصد العظمة، و بقصد المطلوبية على وجه الجزم بحصول ذلك بالعمل، كذلك في حقّ الشاك يحصل برجاء ذلك و احتماله، فإذا

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 165

صار العبادة محرمة ذاتا كما هو الظاهر من الأدلّة صار القسمان تحته، و يؤيد المقام الأخبار الواردة للتمييز بين دم القرحة و الحيض، و كذلك بين العذرة و الحيض، و التعبير في مورد الاشتباه بذلك فإنّه على تقدير الحيضية فلتتق المرأة من اللّٰه بالإمساك عن الصلاة، و على تقدير عدمها لتتق اللّٰه بإتيانها، و هذا التعبير أيضا له كمال الظهور في الحرمة الذاتية دون مجرّد اللغوية. و من هذا الباب أيضا الاهتمام الوارد في الاستبراء من الحيض لدى الانقطاع، و من المعلوم انّه على تقدير عدم الذاتية لم يكن مقام لذلك، و كذلك جعل الاحتياط للمستحاضة التي اشتبه دمها بين الحيضية و الاستحاضة بترك الصلاة و إلّا كان الاحتياط الإتيان مع الرجاء.

و بالجملة المسألة بحسب الدليل أظن أنّه في طرف الذاتية صافية عن الإشكال، و أمّا بحسب القول فلم يظهر من كلماتهم فيها اتفاق، بل لم يدع شيخنا- قدّس سرّه- أيضا إلّا ظهوره، بل كلام الجواهر صريح في وجود المصرّح بالخلاف و

أنّ الحرمة ذاتية، و يظهر من نفسه اختيار ذلك، فراجع كلامه- رفع في الخلد مقامه.

و لكن يشكل الحال على هذا في غالب من الفروع المتعلّقة بالحائض التي اضطربت فيها أيدي الفحول، و لجئوا إلى الاحتياط فيها بالجمع بين إتيان العبادة مع أعمال المستحاضة، و استراحوا به عن دغدغة الإشكال فيصير هذا الباب أيضا منسدا علينا على هذا. فتأمل في ذلك فلعلّ اللّٰه يحدث بعد ذلك أمرا، و يفتح لنا باب الفرج انّه خير الفاتحين.

مسألة: و من جملة المحرمات للحائض مس الكتاب

اشارة

سواء كان لفظ الجلالة

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 166

أم غيره حتى لفظ فرعون و الشيطان المكتوب بقصد القرآن، و الدليل في ذلك أيضا رواية أبي بصير المردّدة بين الموثقة و الصحيحة، قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عمّن قرأ من المصحف و هو على غير وضوء، قال: «لا بأس و لا يمس الكتاب» «1».

و لا خدشة في دلالته إلّا بدعوى عدم ظهور النهي في التحريم و هو في محل المنع للوجدان، و لا تعارض برواية أخرى ورد فيها النهي عن عدّة أمور منها مقطوع الكراهة، و عدّ منها مس الكتاب، فانّا لو كنّا و هذه الرواية لم تصر دليلا على الحرمة، و لكن لو اعتمدنا على رواية أخرى سالمة عن تلك الخدشة، فليست هذه الرواية قادحة في دلالة تلك، إذ غاية ما هنا أنّه يلزم ذكر المحرّم و المكروه في سياق واحد، و النهي عنهما بصيغة واحدة و هو غير مستبعد لاستعمال الصيغة في مطلق محبوبية الترك، و لا حاجة لنا بعد ذلك إلى الكلام في دلالة قوله تعالى لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ «2» و إنّ الضمير هل يرجع إلى القرآن أو الكتاب المكنون الذي هو اللوح المحفوظ

و أنّ المراد بالمس هو مباشرة ظاهر البدن، أو الوصول إلى العلوم المندرجة و إمساس القوة العاقلة لتلك المطالب، و انّ المراد بالمطهرين من طهر عن الاحداث و الجنابات، أو من طهّره اللّٰه من الذنوب و المعاصي، كالملائكة، أو ظهر منها بالاختيار كالأنبياء و الأولياء، و إن كان ربما أمكن على تقدير الحاجة بأن نقول كفينا مئونة ذلك ذكر الآية في رواية إسماعيل و الاستشهاد بها للمقام، و لكن نستشكل حينئذ في دلالة نفس الرواية بأنّها في مقام بيان السنن و الآداب و لا يستفاد منها الإيجاب و التحريم، و على ما ذكرنا فيصير هذا و شبهه مثل المروي عن مجمع البيان على وجه الإرسال مؤيدا للمطلب لا دليلا.

______________________________

(1)- الوسائل: ب 12 من أبواب الوضوء، ح 1.

(2)- الواقعة/ 79.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 167

و يبقى الكلام حينئذ في أمور:
[الأمر الأول ما هو المراد بالكتاب]

الأوّل: انّ المراد من الكتاب، و إن كان المجموع من الجلد و الأوراق من غير فرق بين حواشيها الخالية عن الكتابة و مواضعها المكتوب فيها خط القرآن، إلّا أنّ الظاهر منه في هذه الرواية خصوص الأخير، أعني: الخطوط دون الجلد و حواشي الورق، و ذلك لأنّه ذكر فيها عدم البأس بقراءة غير المتوضّي، و هي ملازمة غالبا مع إمساس البدن الجلد و الحواشي، فلو كان المقصود النهي عن مس ذلك أيضا لوجب التنبيه على ذلك، و انّه يجب حين القراءة أن يأخذ المصحف مع لف اليد بخرقة و نحوها.

[الأمر الثاني في شباهة المكتوب للإفهام بألفاظ القرآن]

الثاني: انّه لا إشكال في ما إذا كتب بعض من القرآن بقصده، و إنّما الكلام في ما يكتب بقصد إفهام أغراض أخر مع شباهة المكتوب بألفاظ القرآن، كما لو كتب من يسمّى طرفه بيوسف في كتابه إليه يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هٰذٰا، مثلا فنقول: ذلك يتصوّر على نحوين بحسب عالم الثبوت:

الأوّل: أن يكون الإتيان بذلك لأجل التفنّن في العبارة و الملاحة فيها، فيؤتى بآية مناسبة للغرض و بقصد إفهامه فقد فهم المرام مع استحسان الكلام، كما يروى عن فضة أنّها عند تكلّمها كانت مفهمة لمقاصدها بالآيات المناسبة، و يسمّى ذلك في الاصطلاح بالاقتباس، نظير ما يؤتى بشعر من سعدي؛ مثلا، مناسب للغرض و يظهر في الظاهر انّه منشئه، فقصد الحكاية في هذا القسم محفوظة و لا ينافيه قصد إفهام المعنى أيضا، غاية الأمر عدم تمشّي هذا القصد في عرض قصد الحكاية، بل إنّما هو في طوله نظير نفس الكتابة، حيث إنّها بقصد الحكاية

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 168

عن نفس الألفاظ ثمّ يقصد المعاني بتوسط الألفاظ المحكي عنها بالخط، فهنا أيضا يقصد قائل اهْدِنَا الصِّرٰاطَ الْمُسْتَقِيمَ

الحكاية عن الألفاظ المنزلة ثمّ بعد ذلك يقصد المعاني ضمنا، و بهذا يمكن الجمع بين قصدي الحكاية و الإنشاء في قراءة الصلاة، و يسهل الأمر أيضا في رد السلام في أثناء الصلاة في مواقع الشك، مثل عدم سماع صيغة السلام حتى يؤتى بالمماثل، و كون المسلّم مميّزا غير مكلّف و نحو ذلك من المقامات المشتبهة، فإنّه ترتفع غائلة الإشكال بإتيان آية فيها صيغة السلام، مثل سَلٰامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهٰا خٰالِدِينَ بقصد القرآنية و يقصد ردّ السلام به ضمنا، إذ لم يدل دليل على وجوب الرد الابتدائي و على وجه الاستقلال.

و بالجملة، فالمقصود انّ مجرد هذا القصد الطولي الحاصل في الاقتباسات و نحوها، لا يخرج الملفوظ عن كونه لفظ القرآن و المكتوب عن كونه خطا له، بل الأمر دائر مدار قصد اللافظ و الكاتب بهما الحكاية عن الألفاظ المنزلة و عدمها، فمع هذا القصد لا إشكال في أنّه يصير حينئذ بالحمل الشائع قرآنا، فكما أنّ افناء اللفظ في معناه على وجه يحمل على اللفظ ما يحمل على المعنى، مثل ما يقال: إنّ اللفظ الفلاني تملّق أو تواضع و نحوهما، إنّما يكون بالقصد أي قصد المعنى منه و النظر إليه فانيا في المعنى، فمع عدم هذا اللحاظ و القصد يخرج عن عينية المعنى، كذلك في حكاية اللفظ باللفظ أو الخط أيضا إنّما يصير هذا اللفظ، أو الخط عين اللفظ المنتقل إليه إذا نظر إليهما بالنظر الحكائي الفنائي.

فحينئذ يصير الأوّل وجودا لفظيا له و الثاني وجودا كتبيا، و مجرّد الانتقال لا يوجب العينية و الفناء، فزيد إذا شابه عمرا على وجه حصل من رؤيته الانتقال

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 169

إلى عمرو لا يصير بمجرد ذلك عنى

عمرو، كذلك لو أتى متكلّم بكلام من غير التفات منه إلى كون نظيره منزلا و في القرآن، بل و عدم سماعه بنزول قرآن من اللّٰه، و لكن اتفق حصول المشاكلة مع أية من آيات القرآن، كما لو كان له بستان سمّاه الكوثر، فقال عند إعطائه تلك البستان شخصا حاضرا إِنّٰا أَعْطَيْنٰاكَ الْكَوْثَرَ فلا يقول من يعلم بالحال، أعني: صدور هذا الكلام من غير استشعار قائله بوجود مثله في القرآن، بل وجود قرآن أصلا: إنّه القرآن، بل يقول: إنّه لفظ مشاكل للقرآن، بل لو فرض محالا أنّه أتى بجميع القرآن على هذا النحو، فلا يطلق العالم بالحال على ذلك المجموع اسم القرآن، بل يقول: إنّه كلام آدمي اتّفق مشاكلته مع القرآن.

و من ذلك علمت القسم الثاني من القسمين اللذين ذكرنا ثبوتهما في مقام الثبوت، و هو الإتيان باللفظ المشاكل للفظ القرآن أو شعر سعدي، مثلا، لا بقصد الحكاية أصلا، بل حصل الموافقة من باب الاتفاق حيث إنّه ليس بقرآن و لا إشكال حينئذ في عدم حرمة مسّه.

و من هنا يظهر الكلام في فرع: و هو ما إذا جاء الريح و جمع التراب على هيئة خاصة حصل منها آية من القرآن، فإنّه لا إشكال في أنّه ليس بقرآن.

و أمّا ما يرى من أنّ العرف يحكمون في أمثال ذلك ممّا ظاهره حصوله من غير قصد قاصد بكونه قرآنا، بل يتبرّكون به فإنّما هو من باب أنّهم يرونه مقصودا، و سرّه أنّه لو رئي مثلا كتابة آية من القرآن على ذنب سمك، مثلا، فحيث إنّه خارق للعادة يرونه مستندا إلى يد غيبي، كما أنّه لو رئي سورة التوحيد بتمامها مكتوبة في كاغذ؛ مثلا، يحكمون بلا تأمّل بأنّه قرآن، و

وجه ذلك أنّهم لا يحتملون حصول ذلك

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 170

بلا قصد الحكاية و من باب الموافقة الاتفاقية. فعلم من ذلك الكلام في مرحلة الإثبات عند مقام الشك، حيث يقال: إنّه لو شك في كلمة واحدة أو كلمتين يكثر وجودهما في غير القرآن أنّه كتب بقصد القرآنية أو عدمها فالأصل البراءة، إذ ليس في البين ما يعيّن أحد الأمرين، و أمّا لو كانت المشكوكة من الكلمات المختصة بالقرآن أو كانت آية طويلة بتمامها أو سورة كذلك، فالعرف في هذه المقامات يحكمون في مرحلة الإثبات بأنّها مكتوبة بقصد الحكاية، فيكون ذلك رافعا للشك و يجري عليه حكم تحريم المس.

[الأمر الثالث هل يحرم مس الحركات الإعرابية]

الثالث: هل الحركات الاعرابية و علامة الجزم و ألف الجمع و واوه عند عدم قراءته و التشديد و المدّ المكتوبة في المصاحف أيضا يحرم مسها على الحائض و شبهها أو لا؟ الظاهر نعم لأنّها معدودة من خط القرآن و صارت بعض ذلك رسما للخط مثل ألف الجمع، و بعض ذلك حكاية لهيئة اللفظ مثل الحركات، و بعضها حكاية عن الحرف الملفوظ و من ذلك التشديد فإنّه حكاية عن الحرف المدغم، و منه أيضا ما يكتب في بعض المصاحف بالحمرة عند إدغام نون في لأم و نحوه، من هيئة لام صغيرة فوق النون بيانا لصيرورته في التلفّظ لاما مدغما في اللام مثل «و لم يكن له».

[الأمر الرابع ما هو المراد بالمس]

الرابع: هل المراد بالمس ما ذا، فهل هو مختص بما تحلّه الحياة فلا بأس بمس الظفر و السن و الشعر و أمثالها، أو يعم جميع ذلك أو ما عدا الشعر، و هل يختص بالظاهر فلا بأس بوضع القرآن في الفم أو مسّه باللسان، أو يعم الظاهر و الباطن؟ الظاهر من لغة المس وصول شي ء إلى شي ء و لا خفاء في صدق ذلك في الظفر و السن و اللسان و الوضع في الفم.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 171

نعم ربما يستشكل في الشعر لا سيّما إذا كان طويلا، حيث لو لم نقل بالانصراف عنه فلا أقل من عدم الإطلاق بالنسبة إليه أيضا، و أمّا في البواقي فمنشأ التوهم إمّا الانصراف: فيرد عليه انّه لو تم الانصراف فهو كما يظهر للاحظ في الأخبار، إنّما هو في خصوص اليد ممّا يتعارف تناول المصحف به، فلا يشمل الرجل فضلا عمّا لا تحلّه الحياة، و هو مدفوع بما يمكن القطع به من تلك الأخبار من

كون علّة الحكم احترام القرآن، و هو مناسب لعدم مس شي ء من البدن إيّاه، فإذا ذهب هذا الانصراف من البين من هذه الجهة، فهذه الأمور كلّها في عرض واحد.

و إمّا الافتراق بين الأعضاء من جهة قبول الجنابة و الطهر و عدم قبولهما، فيقال: إنّ الشعر؛ مثلا، لا يقبل الجنابة و الطهر، و لهذا لا يعتبر غسله في الغسل فلا يحرم مسّه و غيره يقبلهما فيحرم مسه، و هذا أيضا مندفع بأنّ الجنابة و الطهارة أمران عارضان على النفس، و بعد عروضهما على النفس فيصح نسبته إلى كل ما يرى عينا و جزءا للشخص فيشار إليه بتمام أجزائه، و يقال: هذا طاهر أو جنب، فيكون من هذه الجهة أيضا جميع الأجزاء على السواء؛ يعنى، أنّ المعروض هو النفس دون شي ء من الأجزاء، و لكن كلّما باشر المصحف شي ء من أجزاء بدن النفس الجنب و الحائض يصدق انّه مسّه الحائض أو الجنب.

[الأمر الخامس هل يحرم الإمساس للقرآن]

الخامس: كما انّ المس حرام على المكلّف فهل يحرم الإمساس أيضا كأن يجعل يد النائم؛ مثلا، على المصحف و كذلك يجب ردع الغير حتى الطفل من ذلك مع التمكن، أو أنّ التكليف في هذا الباب خاص بالشخص، الحكم في ذلك منوط بأن يستفاد من أخبار الباب حكم كلّي عمومي بالنسبة إلى عموم المكلّفين،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 172

أن لا يدعوا أن يمس يد غير الطاهر القرآن سواء كانوا هم الماسّين أم غيرهم، أو يستفاد حرمة المس على وجه كان ذلك خطابا إلى خصوص الماس دون غيره؟ قد يقال: إنّ الأوّل هو المستفاد من قوله تعالى لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ فإنّه بمنزلة أن يقال: إنّ المكلّفين مأمورون بأن لا يخلّوا غير الطاهرين أن تمس أبدانهم

القرآن.

و لكنّه مخدوش بأنّه خلاف المتفاهم العرفي من العبارة، فإنّ المستفاد انّه خطاب مختص بنفس الماسّين و لكن يمكن تأييد الأوّل؛ أعني: عموم الحرمة بانّ نواهي المقام ناشئة من لزوم حفظ شأن القرآن و علوّ رتبته، فهو مثل حرمة قتل النفس المسبّب عن احترامها و لزوم حفظ شرافتها، فكما يتعدّى في الثاني من مباشرة القتل إلى تسبيبه، بل إلى وجوب ردع من يريد القتل مع الإمكان، فكذلك هنا أيضا لا نشك أنّ الحكم المزبور مسبب عن حرمة القرآن و علو مقامه، فكما يحرم مباشرة المس كذلك تسبيبه و تخلية من يريد المباشرة مع التمكن من الردع سواء أ كان طفلا أم غيره.

السادس: هل يلحق بالقرآن الكريم لفظ الجلالة و الأسماء المختصة الإلهية، بل و غير المختصة إذا قصد بها الذات المقدسة و كذلك أسماء الأنبياء و الأولياء- صلوات اللّٰه عليهم-؟
اشارة

المشهور ألحقوا، و استدل لهم في خصوص أسماء اللّٰه بروايات متعارضة.

منها: موثقة عمار: لا يمسّ الجنب درهما و لا دينارا عليه اسم اللّٰه. «1»

و ما يدل على الجواز ثلاث روايات:

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 18، من أبواب الجنابة، ص 491، ح 1.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 173

الأولى رواية ابن محبوب المحكية في المعتبر عن كتابه في الجنب، يمسّ الدراهم و فيها اسم اللّٰه و اسم رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم؟ قال: لا بأس. «1»

و الثانية: رواية إسحاق بن عمار عن الجنب و الطامث تمسّان بأيديهما الدراهم البيض؟ قال: لا بأس. «2»

و الثالثة: الصحيح المحكي في المعتبر أيضا عن جامع البزنطي، «هل يمس الرجل الدرهم الأبيض و هو جنب؟ فقال: إي و اللّٰه إنّي لأوتى بالدرهم فآخذه و إنّي لجنب و ما سمعت أحدا يكره من ذلك شيئا إلّا أنّ عبد اللّٰه بن محمّد كان يعيبهم عيبا شديدا، فيقول: جعلوا السورة من القرآن في الدرهم فيعطى الزانية و في

الخمر و يوضع على لحم الخنزير» «3»، و قد يحمل الطائفة الثانية على حال الضرورة، و الأولى على الاختيار، كما انّه يحمل الثانية على مسّ الدرهم و الدينار في غير موضع الكتابة منهما، و كان توهم السائل لأجل انّ مجرد مكتوبية هذه الأسماء يوجب حرمة مس تمام الدراهم أو الدينار.

و الانصاف أنّ كليهما حمل بعيد، بل الجمع العرفي لو كنّا نحن و تلك الأخبار هو حمل الأولى على الكراهة، و الثانية على الجواز، إلّا أنّه حكي عدم الخلاف في الحرمة عن نهاية الإحكام، و ظهور اتفاق الأصحاب عن المنتهى، و حينئذ فيحتمل أن يكون تجويز ذلك في الرواية مختصا بخصوص الدرهم و الدينار، و وجهه فيهما هو لزوم الحرج حيث إنّ السلاطين كانوا ملجئين بضرب الدنانير و الدراهم على

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 18، من أبواب الجنابة، ص 492، ح 4.

(2)- المصدر نفسه: ص 492، ح 2.

(3) راجع المصدر نفسه: ص 492، ح 3.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 174

السكة الإسلامية، و السكة الإسلامية كانت غير منفكة عن الاشتمال على هذه الأسماء المباركة، فلو حرم حينئذ مسّها على الجنب و الحائض و غير المتوضّي لزم الحرج مع كثرة الحاجة إلى تداولها في الأيدي، في المعاملات و السوق بحيث لا ينفك عن أمثال ذلك، فصار ذلك سببا لارتفاع الحكم تسهيلا على العباد.

و يحتمل أيضا ابتناء الحكم في أخبار الجواز على التقية، كما ربما يشهد به قوله: «و ما سمعت أحدا يكره من ذلك شيئا» إذ يبعد أن يكون غرضه من ذلك التمسك بالسيرة.

و بالجملة فالأصل عند الشك في المسألة واضح أنّه البراءة، و طريق الاحتياط أيضا غير خفي أنّه عدم ترك التجنّب، و ربما يتمسك

للحكم في المسألة بالفحوى، أعني: فحوى حرمة مس الكتاب و يظهر الكلام فيه في المسألة التالية، هذا كلّه في أسماء اللّٰه تعالى من غير فرق بين الجلالة و الأسماء المختصة الأخر، و غير المختصة إذا قصد بها الباري تعالى.

[في حكم مس أسماء الأنبياء و الأولياء ع]

و أمّا أسماء الأنبياء، و الأولياء- صلوات اللّٰه عليهم- فوجه الحكم فيها لا يخلو من أمور ثلاثة:

الأوّل: الفحوى؛ أعني: فحوى حرمة مس الكتاب و المراد بالفحوى هو ما كان من دلالة اللفظ، بل ربما كان الكلام مسوقا لأجل إفهامه، و ليس المعنى المطابقي مقصودا كما يقال: لا تنظر إلى ظل فلان حيث ليس المقصود حقيقة هو النهي عن النظر إلى ظله، بل المقصود النّهي عن التعرض له، و لا يخفى انّ خطّ المصحف حاك عن الألفاظ التي نزلت من اللّٰه إلى رسوله صلّى اللّٰه عليه و آله و سلم و أسماء الأولياء أيضا حاكية عن تلك الذوات المقدسة، و لا شك أنّ احترام الحاكي في المقامين ناش من

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 175

احترام محكيّه، و يمكن الجزم بأنّ المحكي في الثاني أبلغ احتراما و أعلى و أعظم رتبة من الأوّل، و إن عدّ الأوّل في حديث الثقلين أكبرهما و الثاني أصغرهما، و لكن يظهر منهم أنّهم بصدد التوجيه لهذه الفقرة، و يظهر منه مسلّمية أعظمية العترة من القرآن و اللّٰه العالم.

و الثاني: تنقيح المناط، و هو أن يعلم من الخارج أنّ مناط حرمة مس الجنب و الحائض و المحدث للقرآن هو علو مرتبة القرآن و شرافته، فكل شريف عالي المرتبة يحرم مس المذكورين له و لا شك أنّ الأسماء المباركة كذلك، و لا يعتبر على هذا الوجه الأولوية، بل يكفي المساواة و عدم الأقصرية.

الثالث:

أن نستفيد من ألفاظ الرواية و الآية كون العلّة هو الاحترام، و ذلك لأنّه قد علّل الحكم في الخبر بقوله تعالى لٰا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ و هو معلّل في الآية بأنّه قرآن كريم فِي كِتٰابٍ مَكْنُونٍ، فيستفاد منه كون السبب لذلك كرامة القرآن، فبعموم التعليل يتعدى إلى الأسماء المباركة.

و الانصاف عدم تمامية شي ء من هذه الوجوه:

أمّا الأوّل: فلما ذكر من أنّه يعتبر في الدلالة الفحوائية كون غير المذكور على وجه أفاده المذكور كما في المثال، و كما في فهم الضرب، و الشتم، من آية تحريم قول «الأف» و لا يستقيم ذلك إلّا مع أولوية غير المذكور بمراتب من المذكور، و لا يحصل لأحد ممّن نظر إلى الآية الشريفة، و أدلّة حرمة مسّ الكتاب الانتقال إلى حرمة مسّ أسماء المعصومين- عليهم السّلام-، مثل الانتقال في آية التأفيف و هذا واضح.

و أمّا الثاني: فالإنصاف أنّ أصل استناد الحكم إلى احترام القرآن ممّا لا ينكر،

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 176

و سلمنا أيضا كون الأولياء أعظم رتبة من القرآن المنزّل، إلّا أنّه لم لا يجوز أن يكون علو الرتبة على الوجه المخصوص منشأ لاحترام على نحو خاص، لم يكن محل لذاك النحو في محترم آخر و لو كان أعلى بمراتب، ألا ترى أنّ احترام توقيع صادر من والي البلد لدى العرف يكون بالتقبيل و الوضع على العين، و لكن ليس هذا احتراما لشخص الوالي، بل احترامه بسنخ آخر، فمن الممكن أن يكون للقرآن خصوصية اقتضت هذا النحو من الاحترام، و لم يكن هذه الخصوصية في الأسماء الشريفة، فليس في البين مناط قطعي تطمئن النفس به.

و أمّا الثالث: فالمستفاد من الآية دخل شيئين أو ثلاثة أشياء الكرامة و الكون

في الكتاب المكنون، بل يمكن أن يقال بدخل وصف القرآنية أيضا، و من هنا يمكن الخدشة في قياس سائر الكتب السماوية بالقرآن، فانّ الحكم لم يترتب على كتاب اللّٰه، بل على القرآن الموجود في الكتاب المكنون، مع أنّه ربما احتمل أن يكون ألفاظ سائر الكتب من نفس الأنبياء، و كون المعاني و المطالب ملقاة من اللّٰه تعالى و اللّٰه العالم.

مسألة: و من جملة المحرمات على الحائض قراءة سور العزائم

و استدل على هذا الحكم بروايات لم يذكر فيها سوى لفظ السجدة استثناء من جواز القراءة من القرآن ما شاءت، و هذه اللفظة مردّدة بين نفس آية السجدة و سورتها، و لا يمكن القطع باستظهار الثاني بملاحظة أنّ هذه اللفظة صارت علماء للسور الأربع تسمية بأشهر الألفاظ، مثل البقرة، و آل عمران، و نحوهما إلّا أنّه قد نقل في الوسائل و غيره عن معتبر المحقّق انّه أفتى أوّلا بحرمة قراءة سور العزائم الأربع، ثمّ قال: و روى ذلك البزنطي في جامعه، و كذا وقع التصريح بهذا المضمون في

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 177

الفقه الرضوي.

و ربّما يخدش في عدّ الأوّل من الرواية بأنّه مذكور في كتاب فتوائي و بناؤه على الاستنباط، فلعلّه كان في رواية البزنطي أيضا لفظ السجدة و فهم المحقّق منه السور الأربع، و الرواية عبارة عمّا لم يجئ فيه مثل هذا الاحتمال: بأن أحرز كون بناء الراوي على مجرد نقل ما سمعه من دون تغيير و تصرّف فيه حسب استنباطه و رأيه فيسقط بذلك عن درجة الرواية.

و الظاهر عدم ورود الخدشة بشهادة أنّ المحقّق خصّ المضمون الذي ذكره برواية البزنطي، و لو كان ما ذكره على سبيل الاستنباط و فهم السور الأربع من لفظ السجدة لكان رواية البزنطي مشتركة في ذلك

مع الروايات الأخر، و ظاهر المحقّق انّ هذا ممّا يتفرّد به رواية البزنطي و بهذا يصح عدّه من باب الرواية.

نعم يقع الكلام حينئذ في رجال السند، فالبزنطي من الأجلّاء و لا كلام فيه و فيه الحسن بن زياد الصيقل و المثنّى، و ذكر في المستدرك رواية أربعة من أصحاب الإجماع من الأوّل، و كذا ذكر في الثاني أيضا قريبا من ذلك، و إذن فالرواية من حيث السند تبلغ حدّ الاعتبار، و حينئذ لا بد من التكلّم في دلالته.

فنقول: ربما يقال: إنّ السورة اسم لمجموع الآيات من أوّلها إلى آخرها فلا يصير دليلا على حرمة آية واحدة حتى نفس آية السجدة أيضا.

و يمكن أن يقال: بأنّ النواهي المتعلّقة بالمركبات عند العرف ظاهرة في التعلّق بالأجزاء. و قد ذكر ذلك شيخنا المرتضى في ما كتبه في المكاسب المحرّمة في ذيل عنوان تصوير الصورة الحيوانية، فذكر ما حاصله: أنّه لو اشتغل بتصوير الصورة إلى الوسط ثمّ بدا له في إتمامه، فهل ما صوّره يكون حراما أو تجرّيا؟ ثمّ

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 178

قوّى كونه حراما و فرّق بين النهي و الأمر بالمركب و جعل الفارق هو العرف، ففي الأمر يفهمون انّ المطلوب إيصال العمل إلى الآخر؛ و لا يرون الاشتغال بالأجزاء إلّا كالاشتغال بالمقدّمات. و أمّا في النهي عن المركب فيفهمون أنّ المطلوب التجنّب عنه و عدم التعرّض له رأسا و لو بالاشتغال ببعض أجزائه. و الظاهر تمامية ما ذكره. ألا ترى الفرق بين ما إذا قال: يجب عليك أكل هذه القرصة؛ و بين ما إذا قال: يحرم عليك أكل هذه القرضة؛ فيتحقّق المخالفة في الثاني بأكل لقمة واحدة و لا يتوقف على أكلها بتمامها. و

لا يتحقّق الامتثال في الأوّل إلّا بأكل تمام القرصة.

نعم يحتاج في الحكم بالجزئية عرفا في بعض المقامات إلى القصد إلى كونه جزءا لذاك المركب، كما في تصوير رأس واحد فإنّه لا يعد عرفا جزء من الصورة التامة إلّا مع إحراز كون المصوّر ناويا لتصوير الصورة التامة، و أمّا مع عدم القصد من الأوّل إلّا إلى تصوير الرأس فقط، فلا يقولون: إنّه جزء من الصورة التامة و القامة الإنسانية المنتقشة. و أمّا في مثال القرصة فلا يحتاج إلى قصد أكل التمام فإنّ جزئية اللقمة للقرصة حاصلة بدون هذا القصد. و على هذا فيمكن أن يقال في مقامنا بأنّه لو تكلّم ببعض حروف كلمة من كلمات هذه السور مثل «إق» في اقْرَأْ* و «بس» من «البسملة» و كان من قصده أيضا كونه من تلك السورة؛ فيبتني الجزئية و عدمها على قصد قراءة التمام، أو الكلمة التامّة، أو الآية و عدم قصد ذلك و قصد نفس هذا الحرف من الأوّل؛ ففي الأوّل يعد عرفا جزءا فيحرم و في الثاني لا يعد في العرف جزءا فلا يحرم. و أمّا الكلمة التامة و كذا الآية فلو قصد بها كونها من تلك السور فلا يحتاج إلى قصد التمام، إذ يصدق الجزئية بدون ذلك و اللّٰه العالم بحقائق أحكامه.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 179

مسألة: من جملة المحرّمات على الحائض اللبث في ما عدا المسجدين من المساجد و مطلق الدخول فيهما

أمّا الحكم في المستثنى و هو المسجدان فممّا لا إشكال فيه لوروده في غير واحد من الأخبار.

و أمّا الحكم في غيرهما فاعلم انّ العنوان المعبر عنه في الأخبار مختلف على ثلاثة أنحاء:

الأوّل: أنّ المنهي هو عنوان الجلوس و القعود.

و الثاني: انّ المحرم ما عدا المرور و المشي، و الظاهر أنّ المراد بالمرور مطلق المشي و لو كان

الدخول و الخروج من باب واحد.

و الثالث: انّ المحرم ما عدا العبور و الاجتياز و هما أخص من المرور، و يعتبر فيهما الدخول من باب و الخروج من باب آخر. هذه مقتضى أخبار الباب.

و أمّا الكتاب فالمرتبط منه بالباب هو قوله تعالى لٰا تَقْرَبُوا الصَّلٰاةَ وَ أَنْتُمْ سُكٰارىٰ .. وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ «1». و ظاهرها الأوّلي النهي عن الصلاة جنبا إلّا في حال السفر، فيجوز بأن يتيمم لفقد الماء و يدخل في الصلاة في حال الجنابة بدون الغسل، و التعبير بالسفر لأجل انّه الفرد الغالب من عدم التمكن من الماء و إلّا فلا خصوصية له، و بناء على هذا الظاهر فالآية أجنبية عن المقام، و لكن قد كفانا مئونة التكلّم في دلالتها ورود الرواية الصحيحة المفسرة لها بأنّ المراد مكان الصلاة، أعني: المساجد غير المسجدين فالمراد النهي عن دخول مواضع الصلاة في حال الجنابة إلّا أن يكون الجنب عابرا و المسجد له سبيلا و معبرا. و الرواية ما رواه زرارة و محمّد بن مسلم، قالا: قلنا: له الحائض و الجنب يدخلان المسجد أم لا؟ قال

______________________________

(1)- النساء/ 43.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 180

- عليه السّلام- الحائض و الجنب لا يدخلان المسجد إلّا مجتازين، انّ اللّٰه عزّ و جلّ يقول وَ لٰا جُنُباً إِلّٰا عٰابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىٰ تَغْتَسِلُوا «1». فالمهم التكلّم في الطوائف الثلاثة من الأخبار:

فنقول: الظاهر انّ المراد بالقعود الكناية عن اللبث، لا سيما بملاحظة وقوعه في كثير من هذه الأخبار في مقابل المرور، فذكر فيها التصريح بالمنع عن الجلوس عقيب تجويز المرور، و العرف يفهم من أمثال ذلك الكناية عن اللبث. و إذن فمفاد هذه الطائفة يكون انّ المحرم في

هذا الباب هو مطلق الكون السكوني في المسجد؛ من غير فرق بين أنحائه، من الاستلقاء، و الاضطجاع و القعود، و القيام و غيرها.

و يكون المجوّز مطلق ما يقابل الكون السكوني، من غير فرق أيضا بين أقسامه من التحرك في أطراف المسجد و الخروج من الباب الذي دخل منه، سواء كان بالحركة البطيئة، أم السريعة بالرجل أم بغيرها، أم كان من باب العبور و الاجتياز، أعني:

الدخول من باب و الخروج من آخر. هذا مفاد هذه الطائفة فيتحد مع مفاد الطائفة الثانية التي كان المجوّز فيها مطلق المرور و المشي. فيبقى الكلام في الطائفة الثالثة:

حيث إنّ المجوّز فيها عنوان الاجتياز و هو أخص من مطلق الحركة، و الممنوع فيها ما يقابل الاجتياز و هو أعم من الممنوع في سائر الأخبار؛ أعني: الكون السكوني حيث يشمله مع بعض الأكوان التحركيّة و هي ما كان على غير وجه الاجتياز، و العبور، و كون المسجد سبيلا. فهل يخصص العام في طرف الحرمة في هذه الطائفة بالخاص في تلك؟ أو يخصص العام فيها في طرف الجواز بالخاص في هذه؟ الظاهر هو الثاني، ألا ترى انّه لو ورد: أكرم العلماء إلّا فسّاق العراق، و في

______________________________

(1)- الوسائل: حج 1، باب 15، من أبواب الجنابة، ص 486، ح 10.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 181

دليل آخر: أكرم العلماء إلّا فسّاق البصرة، فعموم العلماء في الأوّل أضيق منه في الدليل الثاني، و عموم الفساق الذي هو المخصص في الثاني أضيق منه في الدليل الأوّل. فالعرف يرون التقديم للأخص من المخصصين لا للأخص من العامين، فكما يخصّصون بفسّاق البصرة عموم العلماء في الدليل الثاني، يخصّصون به أيضا عموم الفسّاق العراقيين في الدليل الأول الذي قد

خصّص به عموم العلماء فيه؛ فيصير المحصل تخصيص عموم العلماء فيه أيضا بفسّاق البصرة. و كذلك إذا ورد في دليل انّه يحرم جميع الأكوان في المسجد إلّا الكون الغير السكوني، و في آخر يحرم جميع الأكوان فيه إلّا الكون الاجتيازي من البابين، فالمتعيّن تقديم خصوص الخاص في الثاني على خصوص العام في الأوّل، و يصير المحصل بعد التخصيصات حرمة ما عدا الاجتياز.

أو يقال في مقام الجمع بين مدلولي الطائفتين: إنّ إرادة الاجتياز، و العبور، من المرور، و المشي على نوع من المسامحة جائز في العرف، فتصير الطائفة التي ذكر فيها الاجتياز شارحة للمراد من المرور و المشي الواقعين في الطائفة الأولى و هذا أولى من العكس؛ أعني: حمل الاجتياز على إرادة معنى مطلق المرور لأنّ رواية الاجتياز مع اعتضادها بالآية الشريفة، مقيدة بصدق عابر السبيل و هو لا يتحقّق مع الخروج عن باب الدخول، فهي في معنى الاجتياز أظهر من الرواية الأخرى في معنى مطلق المرور. فيصير المتحصل على هذا أيضا حرمة ما عدا الاجتياز.

و الفرق بين هذا الوجه و الوجه السابق واضح إذ الأوّل يبتني على اندراج المقام في باب المطلق و المقيد، و العام و الخاص. و الثاني غير مبتن عليه و يكون من باب ملاحظة مطلق الظهور اللفظي و تحكيم الأظهر على الظاهر.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 182

ثمّ إنّهم بعد ذكر حرمة الكون الدخولي الغير الاجتيازي و جواز الاجتيازي؛ صرّحوا بحرمة وضع الشي ء في المسجد و جواز الأخذ منه. و يظهر منهم الموضوعية لهذين العنوانين من دون توقّف على رجوعهما إلى الأوّلين، فإنّ النسبة بينهما و بين مطلق الدخول عموم من وجه بحسب المورد.

و على هذا فالوضع و لو كان من

خارج المسجد حرام إلّا إذا كان طرحا، و قلنا: بعدم صدق الوضع مع الطرح، كما انّ الأخذ و لو مع المكث في مدة طويلة جائز، بشرط أن لا يكون المكث زياد على مقدار ما يحتاج إليه الأخذ.

و كيف كان فالعمدة التعرّض لدليل المسألة و هو بين ما يدل على حرمة الوضع، و جواز الأخذ كما ذكره العلماء، و بين ما يدل على العكس. فالأوّل روايتان:

رواية عبد اللّٰه بن سنان، قال: سألت أبا عبد اللّٰه- عليه السّلام- عن الجنب و الحائض يتناولان من المسجد المتاع يكون فيه؟ قال: نعم و لكن لا يضعان في المسجد شيئا. «1»

و صحيحة زرارة و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر- عليه السّلام- قال: الحائض و الجنب لا يدخلان المسجد إلّا مجتازين- إلى أن قال:- و يأخذان من المسجد و لا يضعان فيه شيئا، قال زرارة: قلت له: فما بالهما يأخذان منه و لا يضعان فيه؟

قال: لأنّهما لا يقدران على أخذ ما فيه إلّا منه، و يقدران على وضع ما بيدهما في غيره. «2»

و الثاني: ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره مرسلا عن الصادق- عليه السّلام-:

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 17، من أبواب الجنابة، ص 490، ح 1.

(2)- المصدر نفسه: ص 491، ح 2.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 183

إلّا أنّه قال: يضعان فيه الشي ء و لا يأخذان منه. فقلت: ما بالهما يضعان فيه و لا يأخذان منه؟ فقال: لأنّهما يقدران على وضع الشي ء فيه من غير دخول، و لا يقدران على أخذ ما فيه حتى يدخلا. «1»

و هذان الدليلان كما ترى ليس بينهما جمع عرفي بحسب الدلالة، فينحصر علاج التعارض بالرجوع إلى المرجّح السندي و واضح أنّه مع الأوّل،

كوضوح استفادة الموضوعية للعنوانين منه كما استفدنا من كلمات الأصحاب.

لا يقال: إنّ التعليل في الصحيحة ينافي الموضوعية و يدل على أنّ الحرمة في الوضع لاستلزامه الدخول، و انّ الجواز في الأخذ لعدم استلزامه إياه فلا يستفاد الحرمة في الأوّل في مورد عدم استلزامه الدخول، و لا الجواز في الثاني في مورد استلزامه.

لأنّا نقول: التعليل غير مذكور في كلام الإمام- عليه السّلام- أوّلا و إنّما ذكر بعد سؤال الراوي عن علّة الحكم و مثل هذا لا يقدح في إطلاق الحكم، فلا يكون بمنزلة قول القائل: لا تأكل الرمان لأنّه حامض و لا تشرب الخمر لأنّه مسكر.

بل التحقيق انّ التعليل في الصحيحة يفيد المدّعى من الموضوعية، و ذلك لأنّه جعل وجه جواز الأخذ انّه لو لم يجوّز لزم الحرج، و رفع اليد عن المال أو الشي ء المحتاج إليه فصار جائزا لرفع هذا الحرج.

و أمّا الوضع فحيث لم يلزم من حرمته هذا الحرج لإمكان الوضع في غير المسجد فلهذا صار حراما، و من المعلوم أنّ مقتضى ذلك انّ جواز الأخذ مطلق

______________________________

(1)- الوسائل: ج 1، باب 17، من أبواب الجنابة، ص 491، ح 3.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 184

حتى في صورة استلزام اللبث، أو المرور الغير الاجتيازي، و كذلك حرمة الوضع أيضا مطلق حتى في صورة الاجتياز.

نعم هنا أمر آخر و هو التكلّم في أنّ ما ذكر هل هو من باب العلّة أو الحكمة، فإن كان الأوّل لزم ارتفاع جواز الأخذ مع عدم لزوم الحرج، كما لو كان هنا شخص طاهر أمكن تولّيه للأخذ باستدعاء الجنب، أو أمكن مباشرة نفس الجنب و لكن بتوسط آلة من الخارج.

و إن كان الثاني كان جواز الأخذ ثابتا حتى مع ارتفاع

الحرج، و الظاهر هو الثاني لمكان الإطلاق، و عدم صلوح التعليل للتقييد كما عرفت.

ثمّ إنّ شيخنا المرتضى- قدّس سرّه- بعد ذكر حرمة جميع الأكوان في المسجد و استثناء الاجتياز؛ صرّح بحرمة الدخول للأخذ ثمّ ذكر فتوى بعض الأصحاب بجوازه، ثمّ تنظّر فيه و قال: إنّ النظر فيه يظهر ممّا مرّ.

و الظاهر ابتناء ما ذكره على طرح أخبار طرفي المسألة للتعارض؛ و مراده من الدخول ما إذا كان على غير وجه الاجتياز، لأنّه المحرّم دون ما كان على وجه الاجتياز.

و قد يتوهم انّه إذا كان على وجه الاجتياز أيضا حرام؛ إذا كان بقصد الأخذ لعدم صدق السبيل حينئذ على المسجد، لأنّه يتوقف على كون المقصد في خارج المسجد؛ فلا يصدق مع كونه في نفس المسجد و هذا توهم فاسد، لأنّه كما قد يكون خارج المسجد مقصدا بالأصالة كذلك قد يكون مقصدا بالجعل و العارض؛ فيجعل الخارج مقصدا له لأجل أن يصير الاجتياز عليه جائزا؛ و لا إشكال في صدق السبيل حينئذ.

كتاب الطهارة (للأراكي)، ج 2، ص: 185

ثمّ على ما اخترناه يجوز الدخول في المسجد لأخذ ماء الاغتسال؛ و الاغتسال في الخارج. و عموم الشي ء في الخبر غير قاصر عن شموله من غير فرق بين الانحصار و عدمه مع الداعي العقلائي في اجتيازه، فلو استلزم المكث لا يجب التيمّم لأجله. و أمّا الدخول في المسجد لأجل الاغتسال من مائه فيه، فهو من الكون المحرّم حتى إذا كان مقدار المكث جنبا معه أقل منه مع الأخذ و الاغتسال في الخارج، كما لو كان مقداره في الثاني عشر دقائق خمسا للذهاب و خمسا للإياب، و في الأوّل سبعا خمسا للذهاب و اثنتين للاغتسال.

نعم الدخول للاغتسال في حال الاجتياز بأن

يجعل بعض عبوره من تحت الماء بقصد الغسل لا إشكال في جوازه.

ثمّ لو عصى و اغتسل في غير حال الاجتياز فالتحقيق أنّ غسله صحيح، لأنّ بطلان هذا الغسل يبتني على اتحاده مع الحرام، كما في الصلاة في المكان المغصوب حيث إنّه متحد مع التصرّف الغصبي، أو كونه علّة للحرام و كلاهما منتف في المقام، لأنّ المحرّم في المسجد هو الكون دون التصرّف فيه و الكون خارج عن أفعال الغسل.

نعم هو مقارن معها و هذا بخلاف المكان المغصوب، فإنّ نفس الكون فيه حرام و تصرّفه حرام آخر، و هو متحد مع الأفعال الصلاتية.

نعم لو فرض في ما نحن فيه كون الغسل مستلزما لتلويث المسجد صار باطلا، لكونه حينئذ علّة للتلويث المحرّم.

________________________________________

اراكى، محمد على، كتاب الطهارة (للأراكي)، 2 جلد، مؤسسه در راه حق، قم - ايران، اول، 1413 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.